ما زالت أصداء عملية قتل المبحوح تدوّي في العالم كله في الغرب والشرق والوطن العربي والعالم الإسلامي. وما زالت آثارها ونتائجها تتوالى يوماً بعد يوم. وتظهر الدلائل المتراكمة أنها من فعل الموساد الإسرائيلي بموافقة رئيس الجهاز "الشين بيت" ومباركة رئيس الوزراء اليميني المتطرف. ولا حرج في إسرائيل. بل تُعتبر تلك العملية نموذجاً للتخطيط والتنفيذ والنجاح في ذلك الكيان. وهي واقعة تزيد من تشديد الحصار حول إسرائيل منذ العدوان على غزة، وتقرير جولدستون، والاستمرار في تشييد المستوطنات، وهدم المنازل العربية بالقدس القديمة، وطرد سكانها إلى الشارع، وتهويد القدس والحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح بالخليل. والسؤال هو: هل إسرائيل دولة قانون، كما تزعم، أم عصابة قطع طريق؟ يفخر الغرب عادة بأن دوله تقوم على القانون. وأنه حارب الكنيسة والملكية والإقطاع من أجل سيادة القانون الذي يتساوى أمامه الجميع، الراهب والمدني، الحاكم والمحكوم، الإقطاعي والفلاح. ويفخر بالدستور الذي يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات. كما يزهو بأنه هو من شيد حضارة حقوق الإنسان التي أعلنت مرتين في تاريخه الحديث والمعاصر. الأولى في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن مع الثورة الفرنسية التي أصبح بسرعة من مواثيقها المؤسسة. والثانية بعد الحرب العالمية الثانية ومذبحة أربعين مليوناً من الأوروبيين بأيدي بعضهم بعضاً. أما نحن فننقد أنفسنا بأننا دولة الشخص، دون تداول للسلطة، ودون تصديق القوانين من مؤسسات الدولة. وإسرائيل تحقيق للأيدلوجية الصهيونية التي نشأت في الغرب في القرن التاسع عشر بنفس الواقع الرومانسي، العودة إلى الجذور، والروح القومية كبديل عن الإمبراطوريات النمساوية والمجرية، وبنقاء الجنس واللغة وأحياناً الدين، البروتستانتية أو اليهودية. ومن هذا السديم من الرؤى والإيديولوجيات نشأت أصلاً إسرائيل في حضن الاستعمار البريطاني لفلسطين بعد تفتيت دولة الخلافة العثمانية، ثم بتدعيم القوة الأميركية ومساعدتها على الاستمرار في الاستيطان والسيطرة. ثم تواطأ الغرب كله من أجل خلق تلك الدولة والدفاع عنها تبرئة للذمة وإحساساً بالذنب مما حدث لليهود من مذابح على يد النازية في الحرب العالمية الثانية. وكانت قد قامت بحركات الاستيطان الأولى منذ أوائل القرن التاسع عشر بسماحة الدولة العثمانية وتحت رعايتها وحسن معاملتها لأهل الكتاب كما تقضي بذلك الشريعة الإسلامية، وكما حدث إبان التاريخ الإسلامي منذ الأمويين والعباسيين وحتى دولة بني عثمان. ثم اتسع نطاق الاستيطان الأول استضافة وسماحة من الإسلام حتى أصبح كالخلايا السرطانية. فقامت ثورة عز الدين القسام عام 1936 للتنبيه إلى الخطر وإيقاف الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية. ثم سلمت بريطانيا نصف فلسطين عام 1948 بعد هزيمة الجيوش العربية. واستولت إسرائيل على النصف الثاني في هزيمة 1967 وما زالت تحتل كل فلسطين حتى الآن باستثناء قطاع غزة الذي حافظ على استقلاله وهجرة الفلسطينيين إليه مذكراً بفلسطين المحتلة وبطرد شعبها وتحويله إلى سكان مخيمات في الدول العربية المجاورة. فالدولة الإسرائيلية في نشأتها غير شرعية. نشأت على أراضي الغير بدعاوى تاريخية ودينية في الظاهر واستعمارية استيطانية في الحقيقة ضمن حركة الاستيلاء على ولايات الدولة العثمانية من إنجلترا وفرنسا، فلا غرابة إذن ألا تلتزم بقانون ولا تراعي شريعة أو دستوراً، دينياً أو علمانياً، موسوياً أو مدنياً. ولا غرابة أن يصدق رئيس الوزراء الإسرائيلي على عملية الموساد الأخيرة بقتل المبحوح. فإذا كان قيام الدولة نفسه غير شرعي فلا غرو أن يكون سلوكها وأفعالها غير شرعيين كذلك. فالكل يجُب الجزء. ولا فرق بين أن يتم ذلك على أرضها ضد العرب في إسرائيل أو على أرض فلسطين في الضفة والقطاع أو على أرض غيرها في الأردن بمحاولة قتل مشعل أو في دبي بقتل المبحوح. فكل شيء مستباح لها، في تصور متطرفيها الحاكمين. لها وحدها حق الحياة وللآخرين الغزو والعدوان والموت والاغتيال. رئيس وزرائها قاطع طريق. لا يلتزم بقانون أو دستور. ورئيس مخابراتها قاتل محترف. والصمت في إسرائيل، من اليمين ومن اليسار على حد سواء. واحتجاجات الأوروبيين مازالت رسمية ودبلوماسية وخافتة ضد الربيبة المدللة. وتُستخدم جوازات سفر أوروبية مزورة من عدة دول أوروبية: فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، وأستراليا وغيرها دون اعتراف بسيادة هذه الدول. فإسرائيل وحدها لها حق البقاء دون غيرها من الدول والشعوب. وهو أحد أسباب الهولوكست، في نظر البعض، عندما اعتبر بعض اليهود أنفسهم يهوداً قبل أن يكونوا ألماناً. فضجت بهم القومية الألمانية عندما صعدت النازية المقيتة إلى الحكم. وما زال الخطر قائماً طالما أن الصهيونية لا تعترف إلا بذاتها في حق الوجود دون غيرها. استيطان وقتل وهدم للمنازل بالفعل، وحديث عن السلام والمفاوضات والدولتين بالقول. ابتلاع لما تبقى من أرض فلسطين في الواقع وحديث عن السلام أمام العالم. استيطان بلا حدود أو توقف، ومفاوضات ومحادثات لا تنتهي. تهويد للقدس وللخليل وهدم للمنازل وطرد لشعب فلسطين خارج أرضه، وتوسيع للشوارع وإقامة للحدائق وزرع للحداثة في الظاهر. فهل ما زال خيار السلام كخيار استراتيجي قائماً وهم لا يعترفون بوجودنا أصلا، ولا بحقنا في الحياة. ثم لماذا كل هذا العدد، ما يفوق ستة وعشرين قاتلا، لاغتيال شخص واحد؟ هل هذا من الشجاعة والمواجهة أم من الجبن والخوف؟ وعلى رغم ما يُقال عن ضعف العرب وتخاذلهم وخوفهم أمام العدو الذي لا يقهر، الدولة الكبرى في المنطقة، إلا أن شجاعة شرطة دبي أثبتت العكس، أنه يمكن الغضب للكرامة العربية واستباحة الأوطان. بل والوصول إلى درجة طلب القبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيسي جهاز استخباراته. كيف يمكن للعرب استثمار اغتيال المبحوح لنصرة قضيتهم العادلة، وتعرية الكيان الصهيوني أكثر فأكثر، بالإضافة إلى تقرير جولدستون؟ كيف تتحول شجاعة شرطة دبي إلى غضب للكرامة العربية وانتفاضة للوجود العربي؟ لن يساعد أحد العرب مهما كان معهم بالأقوال والنوايا الحسنة والتعاطف إن لم يساعد العرب أنفسهم (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). ما زال محور الاعتدال يراهن على خيار السلام الذي أسقطه العدو الإسرائيلي من حسابه. فمن يراهن على خيار التاريخ؟