تنبع أهمية كتاب "مسألة الجنوب ومهددات الوحدة في السودان"، لمؤلفه الدكتور عبده موسى، والذي نعرضه هنا، من كونه يأتي في مرحلة مفصلية على ضوء ما جاءت به اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل، والتي أعطت الجنوبيين حق تقرير المصير عبر استفتاء عام يجري العام القادم. وفيما قامت الاتفاقية على صيغة لتقاسم السلطة والثروة، يقوم الكتاب على فرضية ترى أنه يتعذر تحقيق وحدة مستدامة استناداً إلى الطروحات التقليدية التي تختزل المسألة في اختلافات سياسية يمكن حلها بإعادة توزيع السلطة والثورة، بل المسألة تتجاوز ذلك إلى تباين ثقافي وعرقي تعزز بغياب الثقة بين النخب الشمالية ونظيرتها الجنوبية. لكن قبل ذلك يتناول الكتاب الديناميات التي أسهمت في تشكيل الدولة السودانية، ويربطها تاريخياً بمفهوم "بلاد السودان"، ثم بـ"السودان الشرقي" أو "السودان النيلي"، ويستعرض التركيب السلالي لسكان الجنوب السوداني وأهم قبائله، ثم يناقش العوامل التي أثرت في علاقة الجنوب بالشمال؛ مثل تجارة الرقيق، والاستعمار البريطاني. فالرق الذي ارتبط باستغلال العنصر الزنجي في الجنوب، أضفى بعداً نفسياً على علاقته بالشمال. بينما عمل الاستعمار البريطاني على تهيئة المناخ لانتشار المسيحية في الجنوب، وعزز الاتجاه الانفصالي بسياسة "المناطق المغلقة". وفيما اعتقد علماء الانتروبولوجيا أن السودان دولة عربية إفريقية، يرفض المثقفون الجنوبيون ذلك التوصيف، ويختزلون الهوية العربية الإسلامية في أقلية وافدة تم إعطاؤها مكانة متميزة، دون أن يغير ذلك من حقيقة كونها "أقلية دخيلة". لكن المؤلف يرفض هذه النظرة الستاتيكية للتاريخ، مؤكداً على دور الحراك الاجتماعي، والتفاعل الثقافي، والتداخل اللغوي، والتواصل عبر السلالات المختلفة عبر حزام "بلاد السودان"... في إعادة تشكيل البنية الاجتماعية والمنظومة الثقافية للسودان الشمالي على الأقل، وإن ظلت بعض المعطيات الإثنية والثقافية جامدة في الجنوب، وذلك بسبب الظروف الطبيعية، ثم السياسة الاستعمارية. ويناقش المؤلف "صراع الهويات" على صُعٌد مختلفة: "هويات كبرى" و"هويات متوسطة" و"هويات صغرى"، حيث تمثل الهوية الجنوبية والهوية الشمالية هويتين كبريين، تتفاعل تحت كل منهما هويات صغرى ومتوسطة، وتتواصل ثقافيا. فالهوية الشمالية تقوم على الإسلام واللغة العربية، بينما تستند الهوية الجنوبية إلى تركيبة قوامها الزنوجة والمسيحية، مع وجود بُعد عاطفي للهوية الجنوبية مقابل الهوية الشمالية. وفي هذا الخصوص يشير المؤلف إلى جانب وجداني تراكم عبر العصور، جعل الجنوبيين يعتقدون أن الشمال ينتمي إلى ثقافة أسمى وأرقى، وأنه يظلم إقليمهم ويضطهد أهله، كما يستأثر بالثروة ويحتكر السلطة. لكن التصور الجنوبي حول هوية شمالية متجانسة غير مطابق للواقع، بدليل الصراعات وحركات التمرد في الشرق وفي جبال النوبة وفي دارفور. إلا أن الصراع الأكبر، كما يقول المؤلف، هو صراع "الهويات الكبرى"، وهو في ذلك يختلف مع كثير من الطروحات التي ترى أن صراعات السودان إنما تدور حول الموارد، ليؤكد أنه إلى جانب دور الموارد كعامل مهم في الصراع، يبقى الصراع الأساسي في جوهره صراع هويات صغرى ومتوسطة وكبرى. وهنا يقوم باستدعاء المعادلة الاجتماعية في أبيي حيث تعايش الدينكا (جنوبيون) والمسيرية (قبائل عربية) لمئات السنين، دون أن يحدث اندماج اجتماعي ثقافي بينهما، إلى أن أثير موضوع قسمة السلطة والثروة ورسم الحدود، فثار صراع الهويات بين الطرفين. ويتناول الكتاب مهددات الوحدة من خلال رصده أحداث ومقولات ومواقف تعكس الصورة الذهنية لدى الجنوبي إزاء الشمال، مدللا على غياب الاندماج الاجتماعي والتفاعل الثقافي بين الجانبين. ويعزز الكتاب أطروحته في هذا المجال بدراستين؛ أولاهما حول النازحين الجنوبيين في الشمال وموقفهم من الوحدة، حيث يتضح أن 80 في المئة منهم يؤيدون الانفصال. والثانية عن أحداث العنف التي قادها الجنوبيون في الخرطوم لدى إعلان مقتل غرنغ، حيث استهدفوا أرواح المواطنين الشماليين وممتلكاتهم، ثم كانت ردة فعل الشماليين... مما عزز عدم الثقة بين الطرفين وعكس حجم الهوة وصعوبة التعايش السلمي بينهما. ويخصص الكتاب فصلا لاتفاقية نيفاشا (2005)، ليؤكد على الفروقات الكبيرة بين الواقع الاجتماعي ومعالجات السياسيين. فالاتفاقية، كما يقول، تختزل مشكلة معقدة، مثل مشكلة الهوية، في معالجة سياسية اقتصادية. وهو يصر على المدخل السوسيولوجي لتوصيف العلاقة الجنوبية الشمالية، باعتبار أن جوهرها اجتماعي ثقافي بالأساس. لذلك لا تمكن معالجتها خارج المنظور السوسيولوجي الشامل، والذي يمهد لانصهار القوميات في هوية سودانية كبرى، تتعايش بداخلها عناصر التنوع الثقافي في انسجام وتواؤم تلقائيين. محمد ولد المنى ------- الكتاب: مسألة الجنوب ومهددات الوحدة في السودان المؤلف: د. عبده مختار موسى الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية