في مطلع العام الحالي عرضت قناة أبوظبي الأولى، عبر برنامج "مثير للجدل"، قضية رخصة المرأة في ولاية القضاء، وما إشكالية ذلك في البلدان العربية. وكان الضيف أحد وزراء العدل السابقين، وقاضية مصرية. نفى الوزير أن يكون الإمام أبو حنيفة النَّعمان (ت 150 هـ) قد أفتى برخصة الدين، محتجاً بطالب سوداني قدم رسالة جامعية، نافياً فيها رأي أبي حنيفة بهذا الخصوص. ولا ندري مَنْ هو الأقرب من عصر إمام التسامح والسهولة: أهو الطالب السوداني أم قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ)! ومَنْ هو الأكثر علماً في هذا الشأن قاضي القضاة أم الطالب! كتب الماوردي في "الأحكام السلطانية" في الباب السادس "ولاية القضاء": "وقال أبو حنيفة: يجوز أن تقضي المرأة في ما تصح فيه شهادتها". ثم أردف قائلاً: "وشذ ابن جرير الطَّبَري فجوَّز قضاءها في جميع الأحكام، ولا اعتبار بقول يرده الإجماع...". قصد أبو حنيفة أن المرأة لها القضاء في كلِّ القضايا والمنازعات باستثناء الحدود والقصاص، وما تبقى منها ليس بالقليل. أما أبو جعفر محمد الطَّبَري (ت 310 هـ) وهو المؤرخ والمفسر الشهير، "كان من الأئمة المجتهدين، لم يُقلد أحداً"(ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان). وبالفعل هناك مَنْ عدَّ الطبري صاحب مذهب. ويغلب على الظن أن الأخير نفى، بصورة غير مباشرة، وجود حديث عجز المرأة عن الولاية: "‏لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً" (جامع الترمذي، باب الفتن). وكانت المرأة المقصودة هي الملكة "بوران بنت كسرى أبرويز" التي قال الطبري في عدلِها وتدبيرها لمُلك أبيها: «فذُكر أنها قالت يوم مَلكت: البرَّ أنوي وبالعدل آمر... وأحسنت السيرة في رعيتها، وبسطت العدل فيهم، وأمرت بضرب الورق (النقود) ورم القناطر والجسور، ووضعت بقايا بقيت من الخراج على النَّاس عنهم، وكتبت إلى الناس عامة كتباً أعلمتهم ما هي عليه من الإحسان إليهم، وذَكرت حال مَنْ هلك من أهل بيت المملكة، وإنها ترجو أن يريهم الله من الرَّفاهة والاستقامة بمكانها ما يعرفون به أنه ليس ببطش الرِّجال تُدوَّخ البلاد، ولا ببأسهم تستباح العساكر، ولا بمكايدهم ينال الظفر وتُطفأ النوائر، ولكن كذلك يكون بالله عزَّ وجلَّ، وأمرتهم بالطاعة وحضتهم على المناصحة، وكانت كتبها جمَّاعة لكلِّ ما تحتاج إليه، وإنها ردت خشبة الصليب على ملك الروم مع جاثليق يُقال له إيشوعهب» (تاريخ الأمم والملوك). والعبارة الأخيرة تعني إصلاح سياستها الخارجية مع إصلاح داخل دولتها. فكيف يمكن الركون لرواية هذا الحديث على أنها صحيحة أو حسنة! وللطبري كلام مثل هذا في أختها وخليفتها "آزَرمِيدخت" التي تآمر عليها القائد رستم وسمَّل عينيها (نفسه). أقول لأية علَّةٍ يُحاول إيجاد ما يمنع عناصر التقدم، ومسايرة العصر، وهي موجودة في الدين لا مقحمة فيه! فلماذا يُراد تغييب رأي الإمام أبي حنيفة في قضاء النَّساء وهو منقول عن قضاة وفقهاء لهم اعتبارهم في دولتهم مثل قاضي القضاة الماوردي، وهل الأخير أراد الافتراء على أبي حنيفة، مع أنه كان يقول: "يجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي، رحمه الله، أن يقلد القضاء مَنْ اعتقد مذهب أبي حنيفة" (الأحكام السلطانية). وهل أتى الطبري برأيه أو فتواه في جواز قضاء المرأة من دون عِلم، وهل تراه أسهب في الحديث عن مناقب بوران بنت كسرى وهو واثق من الحديث المذكور فيها! ليس من صالح المسلمين، ولا المنطقة برمتها، أن تغيب تلك المآثر، والعصر فيه النَّساء غدونَّ أكثر من الرِّجال تعلماً، بل في العديد من البلدان أعدادهنَّ زادت على أعداد الرِّجال، فإلى متى تبقى المرأة تُعامل كقاصرة، وأهل زماننا قد دخلوا الألفية الثالثة، وأن الدهر ما بين المانعين للركون لعقل المرأة، في أن تكون قاضية، وها هو الزمن ما أبي حنيفة قد بلغ أثني عشر قرناً وثمانين عاماً، ولكم حلَّ لغز تقدم الإمام وتقهقرنا! فبعد كل هذا الدهر الدهير يأتي مَنْ يبحث في عدم صحة قوله، مع أن الرَّجل قال أكثر من ذلك، به ينفتح العالم على الإسلام وينفتح عليه. لا أعلم لأية علَّة تُنسخ كلَّ نصوص قرآنية صريحة بالمودة والصفح والتسامح ونبذ العنف... بآية واحدة، عُرفت بآية السَّيف. قال صاحب "الناسخ والمنسوخ" هبة الله بن سَلامة البغدادي (ت 410 هـ): إن «هذه الآية (التوبة: 5) النَّاسخة، وذلك أنَّها نَسخت من القرآن مائة آية وأربعاً وعشرين آية». وقد أتى البغدادي على تتبع السور وآياتها المنسوخات سورة سورة في كتابه المذكور. والآية الناسخة هي: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ". أليس للآية الأخيرة، التي جاءت في سورة "التوبة"، أو "براءة"، سبب نزولها! أليس للشدة والقتال زمنهما الطارئ، بينما للتآلف والصفح والتسامح الأبدية! فكيف تُعد تلك الآية، حسب أهل علم الناسخ والمنسوخ، وما تلقفه المتعصبون وتحول إلى ما نرى ونسمع من أخبار الانتحاريين، ناسخة لمثل الآيات التاليات، المملوءات عاطفة وتناغماً من أجل السلم على الكرة الأرضية، وكأن ليس في الكتاب سوى سورة التوبة: "فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ" (المائدة: 13)، و"نحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ" (ق، آية: 45). و"وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس، آية: 99). و"لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: آية: 256). وقد قمتُ بعدِّ وحساب الآيات المنسوخات، واحدة واحدة، من الحاملات رسالة المحبة والسلام فوجدتها ثماني وتسعين آية! كلُّ واحدة منها تعادل مئات من مؤتمرات التقارب والتفاهم بين الأديان والمذاهب على الكرة الأرضية! على أية حال، إن نفي ما خص به الإمام أبو حنيفة، والتغاضي عمَّا أفتى به الإمام ابن جرير الطبري، في شأن الاعتراف بعقل المرأة وعدالتها، لا يقلُّ خطورة من ترسيخ فكرة نسخ تلك الآيات. وأرى هناك إصراراً على تكريس مفاهيم هي من صنع الرِّجال، دون مراعاة التغرب عن عجلة التقدم الهائل، الذي ينجز يومياً الكثير من الآلات والأدوات. أما مجتمعاتنا فمازالت تفترش موائد الحوار لتناقش قضية: هل يجوز للمرأة أن تكون قاضية أم لا! رحم الله أبا حنيفة، لقد قاسها وقدرها، وها هو زمننا يردها عليه.