الفتوة لها وقع في مجتمعاتنا. ولكون الفتوة لا تخضع لنظام واضح المعالم، نجد أن الفوضى تحل بمجتمعاتنا بين الحين والآخر. معظمنا سمع ما أدلى به الشيخ أحمد بن باز حول جواز التعليم المختلط، وأنه ليس في الإسلام ما يعارض ذلك، وأنه إذا ما كان البعض أفتى بعدم الجواز، فذلك كان لظروف زمنية ومكانية محددة، وإن النص القرآني يجب أن يقرأ ضمن أسباب النزول. فكان لرأي الشيخ بن باز أصداء مؤيدة، لكن في الوقت نفسه خرج علينا الشيخ عبدالرحمن البراك ليعلن أن من أفتى بجواز الاختلاط بين الرجل والمرأة يعتبر مرتداً عن الملة والمرتد يقتل! لكن لو تخيلنا أن هناك من قام ونفذ القتل، من يتحمل المسؤولية في مثل هذه الأحوال؟ لابد أن نلاحظ في هذا الخصوص حالة الاهتزاز الكبيرة التي يعيشها العالم الإسلامي نتيجة لعدم احترام التعددية الفكرية، ومن ضمنها التعددية في الإفتاء، وهذا ما نعتبره علة كبيرة نعاني منها، وهي علة معيقة للتطور وبناء الدول الحديثة. السلطة في كثير من الدول الإسلامية غائبة ولا تمارس دورها، رغم أن المؤسسة الدينية تخضع لها عملياً. واليوم، ونتيجة للفوضى الكبيرة التي نعيشها جراء التداخل بين الديني والسياسي، نجد أن المواجهة العقلانية يجب أن تشق طريقها لوقف هذا النزيف الذي تعاني منه كثير من مجتمعاتنا. الدولة قادرة على تنظيم جهاز الإفتاء وتقنينه، لكن هناك ترددا في تنظيم الإفتاء، لأن القرار لم يُتخذ لأسباب عديدة لا نريد الخوض فيها. وما يلفت انتباهنا هو أن التضارب والتناقض في الفتاوي له عواقبه على عقول الشباب، في حين أن التنظيم والترشيد يحفظان استقرار الدول ولا يقللان من هيبتها، وهذا ما ننشده من تنظيم الإفتاء. هناك رغبة لدى بعض مشايخ الدين في فرض مرجعيتهم وآرائهم التي يعتقدون بصحتها، ولعل سطوة المؤسسة الدينية على مناحي الحياة هي ما دفع إلى مثل هذا الوضع، فاليوم نجد المبادرة محاصرة والإبداع سجين لهذه السطوة، فكيف يمكن لأمة أن تنهض في ظل هذه القيود! في الكويت مثلا تمارس المرأة رياضة الفروسية وتشارك في ألعاب رياضية مختلفة، لكن يأتي النائب البرلماني وليد الطبطبائي ليتقدم بسؤال حول عزم الهيئة العامة للشباب تنظيم فريق نسائي لرياضة كرة القدم. كما يأتي أستاذ الشريعة الدكتور النشمي، ليقول إنها من الكبائر، ويمضي غيره في التأييد... وهكذا يفلت الزمام في مثل هذه الأوضاع. العلة هنا هي في كيفية معالجة مثل هذه الأوضاع المربكة لحركة المجتمع. وهنا ليس ما نطالب به أن تُكممَ الأفواه، بقدر ما نطالب بعقلنة وترشيد السلوك الديني لكي لا نُعرِّضَ المجتمع لحالة من الاهتزاز، خصوصاً أن ما يحدث هو نتيجة لتراكمات بعضها منظم وبعضها يقع تحت دائرة الفوضى. وهذه التراكمات أدت إلى تناقض في التربية الحياتية وإلى اهتزاز منظومة القيم الاجتماعية التي يتربى عليها الإنسان. ولعلنا نسترجع بعض لمسات رواد النهضة، مثل محمد عبده ومحمد إقبال وضياء باشا... الذين اعتبروا أن للتربية دورها في تقدم الأمم، ولكي تقوم بدورها يجب أن تكون ذات هدف. وهنا تكمن علة مجتمعاتنا الحالية، لأن تربيتنا ليست هادفة لبناء المواطن ضمن معادلة الدولة الحديثة، بل هي تربية متناقضة مع الوضعية الجديدة، وبحاجة إلى استعادة حيويتها لكي تنهض بالمجتمع والدولة. التربية مصابة بنوع من الاسترخاء الذي ولّد لدينا شخصيات مسترخية ومهمشة لا تعي دورها الحياتي.