إن كان القائد الصربي السابق، رادوفان كاراديتش قد عانى عذاب الضمير من الفظائع الدموية التي ارتكبت بحق ضحاياها تحت قيادته وأوامره، فإنه لم يعبر عن معاناته هذه بعد. فقد دخل إلى قاعة المحكمة متباهياً مرفوع الرأس، ذلك الجنرال الذي كان في منصب القائد الأعلى لجيش صرب البوسنة، عندما استؤنفت محاكمته يوم الاثنين قبل الماضي. وفي الخطاب الذي ألقاه أمام هيئة المحكمة، قال كراديتش: لقد كان الدور الذي لعبه الصرب في حرب البلقان 1992-1995 دوراً عادلاً ومقدساً. فقد دافع خلاله الصرب عن أنفسهم أمام قوى الظلام البوسنية". وقد ألقى "كراديتش" كلماته هذه بثقة مطلقة، يبدو أنها تهيأت له لتناسب المنبر الذي يتحدث منه، حسب تصوره! والواضح أن كراديتش قد هدف من تلك الكلمات، تبرير دوره في تلك المأساة الأوروبية العظمى، التي لم تشهدها القارة منذ محارق الهولوكوست. وبينما تعامل كراديتش مع قاعة المحكمة وكأنها منصة مسرحية يمارس فيها بطولاته، فإن من رأي الكثير من مشاهدي تلك المحاكمة، أنها تذكّر بأمر شديد الواقعية: فها هو كراديتش يقف أمام العدالة في نهاية المطاف. وقد شهد يوم الاثنين قبل الماضي إحدى أهم المحاكمات في عصرنا الحالي. وفيها لم تبد على الجنرال السابق أدنى مظاهر الخجل أو الحياء مما اقترفه. فهدفه هو تهشيم "الصورة النمطية" الغربية السائدة عما حدث في البوسنة خلال حرب البلقان، واستبدالها بنسخته الخاصة من صورة الأحداث نفسها. وعليه فقد كانت هذه هي فرصته لقول الحقيقة -كما يراها-. ولكنه نسي أن للضحايا نسختهم الخاصة بهم للحقيقة. وخلال ما يزيد على اثني عشر عاماً، ظل كراديتش هارباً من جرائم الحرب التي وجهت إليه اتهامات بارتكابها. ولكن تم العثور عليه أخيراً في يوليو من عام 2008، حيث كان يختبئ قريباً من العاصمة الصربية بلجراد، ويقدم نفسه على أنه طبيب يداوي المرضى من أعراض الشيخوخة. وعلى إثر إلقاء القبض عليه، تم ترحيله إلى المحكمة الجنائية الدولية لجمهورية يوغوسلافيا السابقة في لاهاي. وعلى كراديتش الآن، الدفاع عن نفسه في مواجهة الاتهامات الموجهة إليه بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحروب، والجرائم ضد الإنسانية. والسؤال الآن: هل تحقق هذه المحاكمة العدالة؟ أما الإجابة النهائية عن السؤال فهي: ليس ثمة شيء قادر على تصحيح تلك الأخطاء الفادحة التي شهدتها البوسنة أيام حرب البلقان. ومهما يكن، فقد انتقد البعض المحكمة المذكورة، متهماً إياها بالتقصير تارة، والمبالغة تارة أخرى في مساعي البحث عن حل عادل للأزمة البلقانية. وعلى رغم الانتقادات الموجهة إلى المحكمة، فإنها توفر شيئاً لا تستطيع أي جهة أخرى توفيره: أصوات الضحايا. وإن كان التاريخ يعتمد في الأساس على من يكتبه، فإن من شأن هذه المحكمة أن توفر مكاناً يروي فيه الضحايا قصتهم عما حدث بالضبط خلال الحرب البلقانية. وتشمل لائحة الاتهامات الموجهة إلى كراديتش ما تقشعر له الأبدان. فهي تصف مثلاً كيف قاد كراديتش في سراييفو حملة رعب استمرت لأربع سنوات، كان هدفها الوحيد هو "تطهير" المدينة من المواطنين غير الصرب. كما تصف كيف نجحت عمليات إطلاق الصورايخ المستمرة، وحملات القناصة والتصفيات الجسدية المحددة، في تقليص الكثافة السكانية لسراييفو بنسبة 64 في المئة من كثافتها السكانية السابقة للحرب. وبالنتيجة فقد بلغ عدد الضحايا إلى ما يقارب الـ75 ألف نسمة، بينما تركت المدينة في حطام تام. وتصف لائحة الاتهامات الجنرال كراديتش بكونه المخطط الرئيسي لمذبحة سريبرينتشا، التي وقعت في يوليو عام 1995، التي ذبح خلالها ما يقدر بنحو 7500 من الرجال والصبية المسلمين. هذا ويعد كراديتش أرفع شخصية تقدم أمام المحكمة من متهمي حرب البلقان، إذا ما استثنينا الرئيس الصربي السابق، سلوبودان ميلوسوفيتش، الذي فارق الحياة عام 2006، قبل محاكمته. وكما كان عليه حال ميلوسوفيتش، فقد كان كراديتش سياسياً أكثر من كونه قائداً عسكرياً. وعليه، فقد استمد سلطته ليس من قوة البنادق، إنما من خطابيته ذات النزعة الوطنية العرقية. ومن المتوقع أن تحتل الصلة بين كلماته والمذابح التي أريقت فيها دماء غير الصربيين، محور اهتمام المحكمة خلال الأيام القليلة المقبلة. ذلك أن الكلمات الخطابية الحماسية، المشحونة بالكراهية للآخر والحض على قتله وتطهيره، هي التي أدت إلى تلك المذابح وإراقة دماء الغير على أساس عرقي. هنا بالذات سوف تستمع المحكمة إلى شهادات وإفادات الضحايا عما سمعوه من كراديتش، وعن الفظائع الدموية التي أعقبت تلك الكلمات. ووفقاً لممثل الاتهام الرئيسي، "ألان تايجر"، من ولاية كاليفورنيا، فإن هناك ما يكفي من الأدلة على الربط بين كلمات كراديتش، والأعمال الوحشية التي مورست على الأرض. ويستدل "تايجر" بصفة خاصة بجلسة البرلمان المنعقدة في شهر أكتوبر من عام 1991. ففي تلك الجلسة، وجّه "كراديتش" تهديده الشهير لغير الصربيين بقوله: إن الطريق الذي سلكتموه، سوف يقودكم مباشرة إلى الجحيم. وفي تلك الجحيم، سوف تختفي العرقية البوسنية المسلمة في نهاية الأمر". بتلك الكلمات بدأت حملة التطهير العرقي التي أزهقت أرواح مئات الآلاف، خلال فترة تقل عن أربعة شهور. ------ كايل ريتشارد أولسون محامٍ عمل بمكتب الادعاء بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"