تبدو زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لعدد من الدول الأفريقية (رواندا- الجابون- مالي) للمرة السادسة مؤخراً (أوائل مارس 2010)، وفى أقل من خمس سنوات ملفتة للمراقبين السياسيين الذين يشفقون على وضع فرنسا السياسي والاقتصادي عموماً، وعلى وضعها في أفريقيا بوجه خاص. وقد يدهش المراقب أكثر لما تحققه فرنسا على المستوى العربي وهي في هذه الحالة، من احتفاء بقيادتها للمشروع المتوسطي أو اتفاقاتها العسكرية في الخليج، أو مهادنتها النسبية من قبل دول المغرب. والملفت هنا ليس مجرد التناقض بين الوزن الفرنسي المتهالك هنا وهناك وبين الاقتراب العربي الحميم منها، وإنما تأتي الدهشة من أن فرنسا نفسها لا تعطي لهذا الاهتمام العربي تقديره المناسب، سواء بالنسبة للمهاجرين العرب، أو المسائل الإسلامية، أو مجاملاتها الفجة للقيادة الإسرائيلية، وأخيراً تخريب مفاوضات دارفور بموقفها مع الحركة المعادية للتفاوض، والتي تعلن موقفها المعارض من باريس أو ترتب علاقتها بإسرائيل من باريس أيضاً. فرنسا إذن قد لا تستحق من العرب كل هذا الاهتمام، إلا بمنطق أن تقدم فرنسا المقابل الجدير بالتقدير، وهي الدولة المتوسطة القيمة حالياً على المستوى الدولي لولا التحركات الإعلامية للرئيس ساركوزي. فرنسا نفسها تحاول إنقاذ اسمها ومصالحها بهذه التحركات الصغيرة؛ تواجه فيها المنافسة الأنجلوساكسونية مرة، أو بحثاً عن استثمارات مناسبة لشركاتها المهددة بالتضاؤل أوالإفلاس مرة أخرى، ولذا نجد الرئيس ساركوزي مواظباً على زيارة دول تبدو فيها هذه المصالح مباشرة، وآخرها كان العام الماضي بزيارة الكونغو، وبنين في نفس هذا الشهر من مارس الذي يزور فيه حالياً رواندا والجابون ومالي... ولا نعرف بالضبط مدى مشاركة ساركوزي لسياسات كبرى مثل السياسة الأميركية لتحقيق أهداف هذه الزيارات، حيث الأسئلة كثيرة حول هذه السياسات الكبرى في منطقة غنية بالثروات من وسط أفريقيا ممثلة في الكونغو كنشاسا (الماس- الكوبالت- اليورانيوم...الخ) والجابون وبرازافيل حيث البترول، وهكذا. بل إن السياسة الأميركية تهتم أيضاً إلى حد كبير برواندا وقيادتها ذات الطابع العسكري التي تُرشح دائما لدور الشرطي الدولي في مناطق شرق الكونغو أو حتى الصومال، كما رشحت لدارفور. وتأتي زيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة لدعم المصالح في رواندا هذه بإجراء شبه مصالحة كاملة واعتذار لم يتم رسمياً- عن دور فرنسا السابق في مذبحة رواندا (التوتسي) الشهيرة عام 1994. وقد أحجم الرئيس ساركوزي عن إعلان الاعتذار الرسمي لرواندا بقيادة التوتسي الحالية، وهم الذين ذبحوا عام 1994 لعدم تأكيد الاتهام، مكتفياً بالحديث عن "الأخطاء" التي وقعت في ذلك الوقت! الرئيس الفرنسي لم يكن فقط متطلعاً لإرضاء ذلك "الشرطي الأفريقي" بسبب دوره العسكري المطلوب لحماية معادن الكونغو، ولكنه كان قلقا أيضاً من دخول رواندا منظمة الكومنولث البريطاني بعد إقرار اللغة الانجليزية لغة تعليم رئيسية في رواندا مثل الفرنسية. ولم يتحدث المعلقون عما إذا كان القلق تجاه بريطانيا نفسها أم تجاه الاختراقات الأميركية لمناطق النفوذ الفرنسية والانجليزية على السواء. القضية الأهم على ما يبدو في هذه الزيارة الأمنية تجاه معادن الكونغو وبترول الجابون؛ إنما كانت لاستمرار جس النبض بالنسبة لما دعا إليه الرئيس ساركوزي في زيارة سابقة إلى: تحالف دول "المعادن الاستراتيجية" في وسط أفريقيا (تحالف يضم الكونغو ورواندا وأوغندا وبوروندي) وخلق سوق مشتركة بين هذه الدول بالتعاون مع الدول الكبرى. بل وكان ساركوزي قد بالغ في تصوره لإمكان فرض "التحالف" على هذه الدول بالحديث مباشرة عن "حلف عسكري" بين رواندا والكونغو للتعاون في حماية منطقة المعادن الاستراتيجية شرق الكونغو- منطقة جوار أوغندا الطموحة بوجه خاص. ويبدو أن منطقة شرق الكونغو هذه ستكون مجالاً لتهديد مستمر للمصالح التعدينية الكبرى ومنها المصالح الفرنسية، لذلك يحرص الفرنسيون والأميركيون معا على حمايتها بدعم رواندا بوجه خاص. وفي هذا الصدد نذكر تعبير الأميركيين عن قلقهم بإعداد قانون أميركي في الكونجرس لمنع تعامل الشركات الأميركية مع شركات تتاجر في معادن منطقة التمرد والصراع (بقصد منع الاتجار مع عناصر تهريب هذه المواد)، ولذا تسمى معادن هذه المنطقة في الأدبيات الأميركية الآن "معادن الصراع" مثل القول سابقاً "بالماس الدموي" بالنسبة لماس أنجولا ومناطق أفريقية أخرى. ويبدو أن الرغبة في حماية "المعادن الصراعية" هذه؛ هي التي تقف أيضاً وراء زيارة ساركوزي لرواندا، بل وتقف وراء دعم النظام الجابوني الذي يستضيف قوات فرنسية منذ زمن طويل، وسبق لها التحرك لحماية نظام الرئيس عمر بونجو، كما تؤكد حماية ابنه الذي أثار توريثه الحكم في العام الماضي توترات شديدة مع القوى المعارضة. حماية "المعادن الصراعية" كانت أيضاً وراء مرور ساركوزي بجمهورية مالي بحجة شكر رئيسها على إنقاذ الأسرى الفرنسيين من يد "القاعدة" المغاربية حيث كان من الصعوبة أن يزور "النيجر"- مصدر اليورانيوم الشهير- بعد أيام من انقلابها العسكري، ولعله من مالي يبعث برسائل الدعم لنظم المنطقة عموماً ضد تمردات الطوارق وبداية قلق العسكر في أكثر من دولة من دول المنطقة بسبب فساد النظم، بل إن ساركوزي يحاول بما يطرحه من الشراكة في برامج التنمية واستيعاب القوى العاملة، أن يختبر ما طرحه في العام الماضي عند زيارته لبنين، من قوانين في فرنسا ضد هجرة غير الفنيين وغير القادرين على التكيف مع المجتمع الفرنسي! ومعنى ذلك أن فرنسا تريد من أفريقيا أن تعطيها معادنها وثقافتها مقابل لا شيء إلا ظهور رؤسائها في صور لا يتناقلها إلا الإعلام الفرنسي! أتصور الآن أن يعامل العرب فرنسا في حدود حجمها الحقيقي، ولا يسمحوا لها- بحكم حجمهم المتصور- أن تتجاهلهم في قضايا حيوية مثل قضية الصراع العربي- الإسرائيلي أو قضية دارفور.