لازلت أذكر كيف ظللت أتنقل بين مكتبي في مجلس الأمن القومي، ووحدة "مهمة مراقبة الانتخابات" بوزارة الخارجية الأميركية طيلة ليلة الثلاثين من يونيو 2005. آنذاك كان العراق يعقد أول انتخابات مهمة منذ عقود، وكان من المقرر أن أقدم إيجازاً للرئيس بوش حول ذلك الوضع خلال ساعات. في النهاية شققت طريقي للمكتبة الكائنة في مقر سكن بوش، وشرحت له كيف أن القلق المبكر الذي كان قد انتابنا عند رؤيتنا للرئيس العراقي في ذلك الوقت "غازي الياور" وهو يدلي بصوته في مركز انتخابي خالٍ على نحو يبعث على الانقباض، قد تحول إلى فرح غامر بعد أن وصلت إلينا معلومات مؤكدة بأن العراقيين يتدفقون بأعداد كبيرة إلى الشوارع وعلى مراكز الانتخابات. هذه الفرحة الغامرة تحولت فيما بعد إلى استياء شديد، عندما طالت المدة التي استغرقها تشكيل الحكومة العراقية عقب ظهور نتيجة الانتخابات، وشابتها العديد من الشكاوى والاحتجاجات المتبادلة بين الأطراف المتنافسة. وفي تلك الانتخابات التي جرت في بداية العام والانتخابات التالية التي جرت قرب نهايته، أخلى الهدوء المؤقت الذي ساد جبهات الصراع بين الأطراف، الطريق لظهور صراعات حادة بين - وداخل - الأحزاب المختلفة حول طبيعة، وتشكيل، الحكومة العراقية. وفي عام 2006 أدى الفراغ السياسي إلى فراغ أمني، فعندما أدت الحكومة القسم الدستوري، واجهت وضعاً أكثر عنفاً وأكثر تقلباً من ذلك الذي كان سائداً من قبل. لا شك أن العراق الآن يقف على أرضية أكثر صلابة من تلك التي كان يقف عليها عامي 2005 و2006. ولكن من المحتمل هذه المرة أيضًا أن تشهد البلاد بعد انتهاء الانتخابات البرلمانية الحالية التي بدأت أمس الأحد (الموافق 7 مارس2010)، مفاوضات مطولة حول الأحزاب والجبهات التي ستقتسم السلطة في الحكومة القادمة، وهي مفاوضات قد ترهق المؤسسات العراقية الناشئة، وتعقّد خطة تخفيض أعداد القوات الأميركية في البلاد. وعلى الرغم من أن تشكيل الحكومة مسألة عراقية بحتة، فإن للولايات المتحدة مصلحة في الشخصية التي ستكون عليها هذه الحكومة، لأن الأخيرة ستكون في السلطة خلال الفترة التي سيتم فيها سحب القوات الأميركية من العراق بحلول نهاية2011، وهي أيضاً التي ستحدد طبيعة العلاقات الثنائية بين الدولتين خلال السنوات القادمة، كما أن هذه الحكومة بشكل من الأشكال، ستختار الطريق الذي سيسير فيه العراق خلال المواجهة المحتملة بين المجتمع الدولي وبين جارته إيران. هناك أسباب عديدة تدعو للاعتقاد بأن تشكيل الحكومة قد يستغرق وقتا طويلًا: السبب الأول، ينطوي على تطور إيجابي، وهو التغير في طبيعة الأحزاب العراقية: فالأحزاب الشيعية والكردية التي هيمنت في السابق، تشظت وانقسمت على نفسها لتضاهي التشظيات المذهبية والإثنية المستمرة في المجتمع العراقي. وهذا التطور يبشر بإمكانية ظهور عملية سياسية غير طائفية، كما يدل على أن التصويت الذي بدأ الأحد، سوف ينقسم إلى تصويت على عدد من الأحزاب تتلهف جميعها لتقديم رئيس وزراء. السبب الثاني، والأكثر إثارة للقلق هو الخلط المحتمل في القواعد الدستورية التي يتعين على العراقيين استخدامها لتشكيل حكومتهم الجديدة. فهذه الحكومة لن تشتمل على مجلس رئاسي مكون من ثلاثة أشخاص ورئيس وزراء يتم اختيارهم من خلال موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، كما نصت على ذلك "الأحكام الانتقالية" التي اشتمل عليها الدستور المؤقت والدستور الدائم ، وإنما سيكون هناك رئيس واحد يتم انتخابه بغالبية الأصوات. من الناحية النظرية قد يجعل ذلك من تشكيل الحكومة القادمة أيسر بكثير من تشكيل الحكومة الأخيرة- وأسرع أيضاً- ولكن الحقيقة الواقعية هي أنه لم يعد هناك إجماع بين الساسة العراقيين على استمرار الحاجة للأحكام الانتقالية المشار إليها. لقد أظهر العراقيون دوماً مقدرة فذة على حل المسائل السياسية المعقدة وخلق التوازنات... وليس لدي شك أننا لو بحثنا في قصاصات الورق الموجودة في جيوب الساسة العراقيين، ودققنا في الملاحظات المدونة على عجل في مفكراتهم، واستمعنا إلى تسجيلات لما يجري بينهم في المجالس التي تعقد في ساعات متأخرة من الليل، فسوف نجد أن هناك حسابات معقدة وغزلا سياسيا، قد جرت ولا زالت تجري على قدم وساق، وأن نتائج الانتخابات ذاتها هي الفصل الأخير من هذه العملية الحافلة بالفرص من المواءمات السياسية. في عامي 2005، و2006 كتبنا عشرات من المذكرات، التي أحطنا بموجبها الرئيس بوش علما بشأن المفاوضات التي كانت تجري علنا وفي الكواليس حول تشكيل الحكومة العراقية آنذاك، والتي حددنا فيها المصالح الأميركية الجوهرية، والخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة للمشاركة، واعتقد أن الفريق الخاص بأوباما يقوم بشيء مماثل الآن. وعلى الرغم من أن العراق قد أصبح دولة كاملة السيادة اليوم، وأن الوضع السياسي والأمني فيه يختلف الآن جذرياً مقارنة بـ2005،، لاتزال واشنطن أمام أسئلة صعبة حول الكيفية التي يجب أن تتصرف بها في المرحلة الحرجة القادمة. نظرا لحساسية التدخل الأميركي، فإن البعض قد يقترح أسلوباً للمقاربة يعتمد على أن ترفع واشنطن يدها عن الأمور، ولكن من يقترحون ذلك لا يدرون أنها مقاربة أصعب بكثير مما قد توحي به للوهلة الأولى علاوة على أننا جربناها بالفعل عام 2005، ووجدنا أن البعض حاول استخدامها كرافعة ضد خصومهم. الوضع نفسه قد يحدث الآن بحيث تتم إساءة تأويل أي ملاحظة أو تعليق من قبل أي مسؤول أميركي واستغلاله في المفاوضات الداخلية. علاوة على الصعوبات التي تحيط باستخدام مقاربة رفع اليد عن الأمور، فإن مصلحة الولايات المتحدة في الحكومة العراقية الجديدة، تتطلب قدرا من المشاركة والانغماس ولكن أي نوع من المشاركة والانغماس؟ وما هي حدوده؟ أولاً: كقاعدة عامة يجب على الولايات المتحدة ألا تحاول تفضيل أي مرشحين عن غيرهم أو حتى تعطيل البعض لحساب البعض الآخر. ثانياً: يجب عليها أن تقرر أين تقف بالضبط في حالة تشكيل حكومة وحدة وطنية. على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تعد ذات وضع مركزي في العراق على النحو الذي كانت عليه فيما سبق، فإنها لا تزال صاحبة نفوذ فيه على الأقل من جهة أنها الجهة الوحيدة التي يحترمها الجميع تقريباً حتى وإن كان ذلك على مضض. ولا خلاف على أن أي حكومة عراقية ستحافظ على علاقات طيبة مع واشنطن. فحتى لو لم يبق جندي أميركي واحد في بلاد الرافدين عام 2012 فإن الحكومة العراقية ستكون بحاجة إلى الولايات المتحدة من أجل الحصول على احتياجاتها من المعدات والتدريب، كما أن "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" بين الدولتين ستثمر حتماً منافع في مجال التعليم والاستثمار والتقنية. ولا اعتقد أن أي رئيس وزراء عراقي قادم سيكون قادرا على التقليل من هذا الأمر. ميجان أوسيلفان نائبة مستشار الأمن القومي لشؤون العراق وأفغانستان في إدارة جورج بوش ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"