أعلنت الهيئة المشرفة على انتخابات الرئاسة في التوغو، يوم أمس الأحد، فوز الرئيس المنتهية ولايته "فوريه غناسينغبيه"، بنسبة 60.9 في المئة من أصوات الناخبين، ليحكم البلاد فترةً رئاسيةً ثانيةً. وجاء الإعلان بعد يومين من الغموض والتضارب حول النتائج الحقيقية للاقتراع، إذ اعتبر نفسه كل من غناسينغبيه ومنافسه الرئيسي مرشح المعارضة "جان بيير فابر"، أنه الفائز بالرئاسة، وقال فيبر لأنصاره إنه حصل على نسبة 78 في المئة من الأصوات، ليخرج الآلاف منهم إلى الشوارع محتفلين بالنصر! وهو الاحتفال الذي تحول إلى إعمال احتجاج غاضبة عقب إذاعة النتائج الرسمية من قبل اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة، ضد ما اعتبروه تزويراً لنتائج الاقتراع، وانحيازاً من اللجنة الانتخابية لصالح مرشح السلطة. ويثير الجدل المحتدم حول نتائج الانتخابات الحالية، خشية المراقبين من تكرار الاضطرابات وأعمال العنف التي أعقبت انتخابات الرئاسة الفائتة، كما يعيد إلى الأذهان اعتراضات كثير من القوى التوغولية على طريقة وصول غناسينغبيه إلى السلطة، كثاني رئيس إفريقي يرث الحكم عن أبيه، بعد جوزيف كابيلا في الكونغو الديمقراطي. وقد ولد "فوريه غناسينغبيه" في "آفانيان" بجنوب التوغو، عام 1966، أي قبل عام واحد من الانقلاب العسكري الذي أتى بوالده إلى سدة الحكم. وكغيره من أبناء قادة إفريقيا الفرانكفونية، تلقى غناسينغبيه دراسته في فرنسا وتخرج من جامعة "باريس- دفين"، ثم حصل على شهادة الماجستير في التسيير الاقتصادي من جامعة "جورج واشنطن". ولدى عودته إلى التوغو انتخب نائباً في البرلمان عن دائرة "بليتا" ضمن قائمة حزب "تجمع الشعب التيغولي" بقيادة والده. وفي نهاية ولايته البرلمانية الأولى، عُين وزيراً للأشغال العامة والمعادن والاتصالات، في حكومة "كوفي ساما" عام 2003. وكان تعيينه متوقعاً بالنظر إلى الحالة الصحية لوالده، والذي قام في ديسمبر 2002 بإجراء تعديل دستوري خفّض بموجبه السن القانونية للترشح لمنصب الرئاسة من 45 إلى 35 سنة، وهي عمر نجله في ذلك الوقت. ولدى وفاة الوالد في 5 فبراير 2005، وعقب انقلاب دستوري مدعوم من الجيش، أُعلن عن غناسينغبيه رئيساً للجمهورية. فقد كان المفترض بحسب الدستور التوغولي أن يتولى مقاليد الحكم بالإنابة رئيس البرلمان، لكن القوات المسلحة أعلنت حالة الطوارئ، وأغلقت الحدود، ولم تسمح لرئيس البرلمان الذي كان في سفرة خارجية بالعودة إلى البلاد، فيما عقدت الهيئة التشريعية اجتماعاً عاجلا غيرت خلاله النص الدستوري حول خلافة الرئيس، و"انتخبت" غناسينغبيه رئيساً للجمهورية. بيد أن احتجاجات المعارضة، وضغوط الاتحاد الإفريقي والمجموعة الدولية، أجبرت غناسينغبيه على الاكتفاء بتولي الرئاسة فقط خلال الفترة الوجيزة المتبقية من ولاية والده الراحل، وتنظيم انتخابات رئاسية يكون خلالها رئيساً بالإنابة. وهكذا أعلن نفسه في الخامس والعشرين من فبراير رئيساً بالإنابة، ومرشحاً لانتخابات الرئاسة. وانتخب في 24 إبريل 2005 رئيساً للجمهورية، بنسبة 60.6 في المئة من الأصوات، في اقتراع شابه تزوير قالت المعارضة إنه واسع وبلا مثيل... لتشهد التوغو قلاقل استمرت عدة أشهر قتل فيها نحو 800 شخص. وقد انعكست تلك الأحداث وتداعياتها المعنوية على الولاية الأولى للرئيس غناسينغبيه، ولم يستطع تحسين الأحوال المعيشية في البلاد، والتي ما زالت 70 في المئة من قوتها العاملة تنشط في القطاع الزراعي، مع العلم أن التوغو دخلت التاريخ الحديث مند 125 عاماً، أي مع مؤتمر برلين (1885) الذي جعل منها مستعمرة ألمانية، إلى أن احتلها الجيشان الفرنسي والبريطاني خلال الحرب العالمية الأولى وقسماها إلى شطرين. وبعد الحرب العالمية الثانية، وضعت التوغو بقسميها (الفرنسي والبريطاني) تحت وصاية الأمم المتحدة التي أجرت استفتاءً شعبياً فيها عام 1957، انضم بموجبه القسم الغربي إلى غانا، فيما نالت التوغو الفرنسية (القسم الشرقي) استقلالها عام 1960 على مساحة لا تتجاوز 56 ألف كلم مربع. وإضافة إلى صغر المساحة، يقطنها 6 ملايين نسمة ومحدودية الموارد، فقد ابتليت التوغو بآفة عدم الاستقرار، وشهدت ثاني انقلاب عسكري في بلدان إفريقيا المستقلة حديثاً عام 1963، تبعه في عام 1967 انقلاب آخر بقيادة الكولونيل "غناسينغبيه أياديما". ومثلت الانتخابات الأخيرة مناسبة لتقييم 43 عاماً من حكم عائلة غناسينغبيه التي رأى كثير من التوغوليين أنها لم تضع البلاد في ظرف اقتصادي وسياسي أحسن من حالها أبان الاستعمار الفرنسي. ويُعتقدُ أن غناسينغبيه الابن يعيد استنساخ الكثير من سياسات والده في تسيير الحكم وإدارة التناقضات الداخلية والتحالفات الخارجية. فقد كان أياديما لدى وفاته آخر الجنرالات الحاكمين في إفريقيا السوداء، بعد تساقط الآخرين إثر عاصفة الديمقراطية التي هبت على القارة في مطلع التسعينيات. ويعود صموده في حكم التوغو إلى سيطرته على الجيش ذي الغالبية من أبناء قبيلة "كابيه" التي ينتمي إليها. كما تمتع بعلاقة تحالف قوية مع فرنسا التي تدخلت بقوتها العسكرية ثلاث مرات لإفشال محاولات انقلابية أوشكت على إطاحته. وإلى ذلك، فقد اعتمد دائماً على إثارة التناقض داخل معارضيه لتمزيق صفوفهم وإضعافها. فعقب تصاعد التوترات الداخلية عام 1991، سمح لقوى المعارضة بتشكيل أحزابها السياسية، ونظم مؤتمراً وطنياً عين خلاله أحد زعمائها، هو "كوكو كوفيغو"، رئيساً للحكومة، مما أحدث شرخاً داخل المعارضة، خاصة بعد أن أعلن "كوفيغو" تأييده لأياديما في انتخابات الرئاسة عام 1993. وبعد فوز المعارضة بالانتخابات التشريعية في العام التالي، قام أياديما بتكليف "آدم كودجو"، زعيم أصغر حزب معارض، برئاسة الحكومة ليسجل اختراقاً آخر في صفوف خصومه. وهذا التكتيك تقريباً هو ذاته ما حاول "فوريه غناسينغبيه" انتهاجه نحو قادة المعارضة التوغولية خلال ولايته المنتهية، وإن بنجاح أقل. بل إن نتائج انتخابات الخميس الماضي، على ما قيل حول افتقارها للنزاهة والشفافية، تظهر أنهم لا زالوا يمثلون تحدياً كبيراً لحكمه، كما تمثل معضلات التنمية الاقتصادية والإدارية والاجتماعية، أي مسألة الحكامة الرشيدة، تحدياً استراتيجيا للتوغو بصفة عامة! محمد ولد المنى