عندما بدأ الباحث الاجتماعي المصري "سعد الدين إبراهيم" في بداية التسعينيات مشروعه البحثي حول موضوع الأقليات في العالم العربي، كانت نقطة انطلاقه المنهجية هي أن أغلب الدول العربية معرضة للتفكك والانقسام لعجزها عن بناء نسيج وطني متماسك يستوعب أشكال التعددية الدينية والطائفية والقومية القائمة. وضع سعد الدين إبراهيم مقاييس رقمية لقياس درجة "الانسجام" و"التجانس" في المجتمعات العربية، وخلص أيامها إلى أن العالم العربي سائر في أكثر من بلدانه إلى الصوملة (من المأساة الصومالية)، بعد أن كان الحديث سائداً في السبعينيات عن لبننة العالم العربي (من الفتنة الأهلية اللبنانية). جرى الكثير بعد تقارير مركز ابن خلدون الأولى حول الأقليات في العالم العربي، أغلقت المؤسسة التي أسسها إبراهيم لهذا الغرض، اثر اتهامه بالتواطؤ مع بعض الجهات الأجنبية. لم تنهر الدولة القطرية العربية "الهشة" تحت معاول التعددية القومية والطائفية. فلا لبنان عاد إلى الحرب الأهلية رغم زلزال اغتيال الحريري وما تلاه من أحداث حاسمة، ولا بربر المغرب العربي ثاروا وتمردوا، ولا أقباط مصر تململوا. وعلى الرغم من الفظائع التي حدثت في العراق منذ سقوط النظام "البعثي" واحتلال البلاد، فإن تفكك الدولة لم يعد مطروحاً حتى لدى الأقلية الكردية التي تعي "الفيتو" الإقليمي والدولي على قيام دولة كردية في شمال العراق. ورغم أن مشهد انفصال جنوب السودان مطروح كاحتمال جدي في الاستفتاء المقرر بعد سنتين، فإن الحقيقة الماثلة للعيان هي أن الحالة السودانية الداخلية تحسنت نوعياً في الآونة الأخيرة على الجبهتين المفتوحتين جنوباً وشرقاً (موضوع دارفور) . صحيح أن الفتنة الحوثية اندلعت بشدة قي السنة الماضية في اليمن، إلا أن عودة البلاد للانقسام ليست مطروحة، رغم كل ما يكرره "خبراء" الفضائيات العربية. لا يعني هذا الكلام أن الدولة العربية الجديدة أصبحت فجأة قوية، محصنة ضد كل مخاطر التفكك والتجزؤ، بعد أن كان الجميع يتوقع انهيارها الحتمي الوشيك. إنما كل ما في الأمر، أن الباحثين السياسيين والاجتماعيين العرب بقوا في رصدهم ودراستهم للدولة الوطنية العربية أسرى النموذج الأوروبي لهذا الكيان السياسي الحديث، غير مدركين من جهة الفروق النوعية بين التجربتين، ومن جهة أخرى التحولات الجوهرية التي عرفها النموذج الأوروبي نفسه. ومدار الإشكال كله يتعلق بعلاقة السيادة بالإقليم، باعتبار أن الدولة القومية الأوروبية هي أول دولة تقيم هذه العلاقة العضوية بين مبدأ المواطنة والمجال الإقليمي الذي تمارس عليه هذه الدولة سيادتها. صحيح أن السيادة تقترن دوماً بمجال إقليمي، لكن ما لا ينتبه إليه الكثيرون، هو أن ثمة ما دعاه الباحث الجغرافي البريطاني "جون انجوس" أنظمة متعددة للسيادة، تتداخل وتتقاطع في فضاءات إقليمية متنوعة ومتمايزة. وقد عرف العالم من قبل بعض الأنظمة المعروفة كالنظام الإمبراطوري الذي يؤسس لعلاقات سياسية متعددة الدوائر والمستويات بين مكونات قومية ودينية شتى، تتراوح بين نفي المواطنة (لمجموعات مقصية لأسباب دينية أو غيرها) والاستقلالية الفعلية داخل الإقليم الإمبراطوري. كما أن الظاهرة الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين، كرست نظاماً آخر للسيادة قائماً على الانفصام داخل المجال الإقليمي الخاضع للدولة بين مركز المواطنة والهوامش التابعة. واليوم نشهد أنظمة جديدة للسيادة تتلاءم وطبيعة حركية العولمة، أبرزها في المجال الأوروبي نظام الاندماج الإقليمي القائم على مفهوم "السيادة المتقاسمة"، في حين ظهر نظام يمكن أن نسميه "السيادة المحمية" في بلدان أخرى، كما هو الشأن في البوسنة وكوسوفو بعد محنة الحرب الدينية – العرقية في الحطام اليوغسلافي. ظهرت في المجال العربي أنظمة سيادة خارج تحكم الدولة الوطنية، لم تنل اهتمام الباحثين في الشأن السياسي، يمكن أن نقف باقتضاب عند أربعة منها: السيادة الاقتصادية التي أضحت في العديد من البلدان ناقصة، لأسباب لا علاقة لها بمقولة العولمة السحرية، وإنما بطبيعة تركيبة الدولة نفسها التي تقوم في بنيتها الاقتصادية على العون الخارجي، وما يقتضيه من منطق تحكم الصناديق والمؤسسات الدولية والقوى العالمية المانحة. وقد بدأ هذا المسار منذ الثمانينيات، وغدت له أشكال مقننة معروفة. السيادة الأمنية المرتبطة بحروب"الإرهاب"، التي اندلعت في السنوات الأخيرة في المجال العربي – الإسلامي، وأفضت إلى بلورة مدونة قانونية وتشريعية كاملة تتجاوز السيادة القانونية المألوفة التي هي أبرز مقتضيات السيادة. السيادة المرتبطة بحركية الهجرة الكثيفة التي شهدتها البلدان العربية (النفطية على الأخص ). فما نعيشه راهنا في هذه البلدان هو التداخل بين دائرتي الهوية الوطنية (مرتكز السيادة) وهوية الإقامة (المقيم الذي قد توكل إليه مهام لها صلة بالمجالات السيادية كالأمن والدفاع ). السيادة المرتبطة بتعددية الولاء الناتجة عن تنوع النسيج الوطني دينياً وطائفياً وقومياً. فغني عن البيان أن عقد المواطنة لا يلغي ضرورة أشكال التعاضد والولاء ما فوق الوطني، التي قد تتعايش دون تناقض مع الهويات الوطنية، وقد تصبح لها الأولوية في الساحات المتأزمة. وتبدو هذه الظاهرة جلية في العراق ولبنان راهناً لأسباب لها علاقة بالتركيبة الطائفية والسياسات الإقليمية لبعض بلدان الجوار الجغرافي. وقد ذهب بعض الكتاب الأفارقة إلى أن نموذج السيادة الأحادية وما يرتبط به من آليات تمثيل لا يلائم المجتمعات شديدة التنوع العرقي، لما يترتب عنه من هيمنة الأغلبية وتحكمها في مسار تشكل الهوية الوطنية. وقد بلور هؤلاء فكرة "السيادة المزدوجة"(الولاء للدولة ولمجموعة ما) والتمثيل المجموعاتي، (أي بناء التمثيل على حقوق المجموعات إضافة إلى الإرادة الفردية الحرة). يحتاج الفكر القومي في إعادة تصوره للمثال الاندماجي العربي مراجعة فكرة السيادة من هذه المنطقات والاتجاهات الجديدة.