في إحدى بلدان جنوب شرق آسيا التي تقطنها غالبية مسلمة، ومعروف عنها تسامحها الديني (القديم) تفجرت أزمة جديدة بين المسلمين والمسيحيين حول الكلمات المستعملة من قِبل النصارى هناك، والتي تعني الله المتعالي في سماواته، وتقول: (إلهنا الذي في السموات.) هذه الكلمات لها شبيه قريب عند المسلمين، ففي سورة الزخرف يقول الله تعالى وهو يصف نفسه: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) صدق الله العظيم. أين المشكلة؟ المشكلة هي في الشعور الجديد الذي بدأ يداهم المسلمين، بأنهم يحتكرون التقرب والدعاء إلى الله دون الأديان وأتباعها الآخرين، نعم الإسلام في - رأينا - خاتم الرسالات والديانات وأصدقها وأتمها، لكن هذا لا يعني عداء ما يعتقده الآخرون عن ربهم ورسلهم والملائكة والآخرة وشؤون الدنيا. يروي الدكتور (محمد حسين هيكل) في كتابه عن (الفاروق عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، روايات عن فتح القادسية التي تمت في عهد الخليفة الثاني رضي الله عنه، ففي تلك الحرب المشهورة انضم الفرسان العرب المسيحيون إلى إخوانهم وبني عمهم الفرسان العرب المسلمين - ومن ذات القبائل - وهم يحاربون جميعاً الفرس عُباد النار، كان الفرسان العرب المسيحيون يدعون الله – على طريقتهم - كما يدعوه المسلمون، ولم يُعرف أن (سعد بن أبي وقاص) منع تلك الحمية وتلك الأدعية، فما بال مسلمي ما بعد (سعد) و (عمر) بأكثر من 1400 عام، ينكرون على بعضهم البعض الدعاء للإله الذي في السموات بأن يشفيهم ويساعدهم ويُنجيهم من كُرب هذه الحياة ؟ جاءت هذه الفتنة الجديدة بعد فتنة الاعتداءات على الكنائس في جنوب شرق آسيا التي تستخدم كلمة (God). بمعنى الله، وكأن هذه الكلمة جديدة في النطق والسمع والانتشار في البلاد التي (كانت) متسامحة، ولا يمكن أن ينطقها سوى المسلمين دون العالمين أجمعين. نعم نقول كانت تلك البلاد متسامحة جداً، إلى أن أتى إسلام (المودودي) وزعماء "القاعدة" و"التكفير" الذين كنا نقرأ آراءهم عندما يُسرد تاريخ أجدادهم الخوارج، فنضحك ونشمئز من تفسيرهم البسيط والساذج والدموي للحاكمية، واعتقاداتهم في الخلفاء وقصة التحكيم وما إلى ذلك، لكن أيامنا هذه جعلتنا نسترجع فعلاً خوارج ما بعد سنة 36 للهجرة. ما الذي يضر من دعاء المسيحي في غابات إندونيسيا وماليزيا المسلمة بأن ينجيه الله الذي في السموات؟ ليدعو كما يشاء ربه الذي يعتقد – كما نحن – بأنه موجود في السماء والأرض، لا شأن لنا ونحن وهم نعيش في أرض واحدة، ونحمل هوية واحدة، وتاريخا واحدا، ومستقبلا واحدا، بالرب الذي تُثلثه طوائف وتُوحده طوائف مسيحية أخرى، ليكن اعتقادنا ونحن نسمعهم بأن المقصود هو الله الذي هو إله في الأرض وإله في السماء، أما كلمة الله الذي نعني به معبودنا الحي الذي لا يموت فهو الـ(God) عند ملايين آخرين ليسوا ملتزمين بأن يلفظوا كلمة الله كما ينطقها المسلمون أو (الياهوه) كما ينطقها اليهود ! في نفس الوقت الذي نقيم فيها الدنيا ونقعدها حول مسألة بناء المآذن – وليست المساجد – في سويسرا يقوم بعض قومنا بتفجير الكنائس في بلادٍ يسكنها (مواطنون) مسيحيون كُثر، وفي نفس الوقت الذي نجاهر بالعداء لمن جاهر بالعداء للحجاب ولرموز الإسلام من هيئة وملبس ومأكل، نقتل من بين مواطنينا من يرفع على كنيسته التي بنيت قبل آلاف السنين كلمة (God). أقول مواطنينا وأنا أتكلم بلسان الوسطية التي توارت في بلدان إسلامية معينة يتقاسم على أرضها سكان يعتقدون برب واحد، وإن بأديان مختلفة تُوصل لهذا الرب. قال لي أحد الأصدقاء من المسلمين التايلانديين، وهو يتعجب من الأحوال التي وصلت إليها العلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، والذين يعيشون في أوطانٍ واحدة، وخاصة في بلدان جنوب شرق آسيا (كنا شبه إخوة حتى وصل مفهومكم للدين إلى بلداننا، ليتكم تعلمتم منا التسامح ولم نتعلم منكم الكراهية)، لم أرد أن استوضحه في مقصده عند الإشارة إلى (لكم) لأنني أعرف ماذا يريد أن يقول دون تفسير وترديد مرة أخرى للكلمات التي تؤلم بحق! هذه البلدان التي تختلف الآن في الإله الذي في السموات وفي كلمة الله والـ(God)، اعتنقت الإسلام عبر التجار الحضارمة المهاجرين لها منذ مئات السنين، لم تدخل في دين الله عن طريق السيف والجزية ومفهوم أهل الذمة. انتشر الإسلام سريعاً وقوياً من خلال تجار صادقين في البيع والشراء والتعامل مع الآخرين، في السوق والبيوت ودور تدبير شؤون الناس، كانوا يبيعون متر الحرير للمسلم بمثل سعر متر الحرير للمسيحي والبوذي والوثني، فدخلت جموع الناس لدين الله القويم مختارين راضين ومقتنعين، ملايين من البشر اعتنقوا الإسلام من خلال الـمُثل العليا والكلمة الطيبة الحسنة، وفي المقابل مكث المسلمون أكثر من 600 سنة في أندلس إسبانيا، ولم يُعرف أن إسبانياً واحداً مسيحياً أسلم طوعاً وتلقائياً وبدون إجبارٍ وخوف من الذين دخلوا بلادهم، وكانوا يتنادون بأن البحر وراءهم والعدو من أمامهم، لذا لم يكن هناك مفرٌ من لقاء الأعداء وفتح بلاد القوط ! إليكم هذه الحكاية الصغيرة الحقيقية: يقابلني كلما قدمت وخرجت من بلدٍ عربي شخصٌ – ما – يعمل في مطار ذاك البلد، وبقدرة قادر أجد هذا الشخص في كل أسفاري، فيبدي لي من الاستعطاف وطلب العون، مما يثير في المرء الأريحية المختلطة بسأم من هذا الشخص، والذي أجابهه بما أخصصه له – دائماً – وأخبئه في داخل جيوب السترة الظاهرة منها والخفية. يحدث لي هذا في كل مرة أهبط مطار هذا البلد العربي، عدا يومي السبت والأحد الذي يأخذ فيهما هذا الشخص إجازة يتعبد فيها إلهه الذي في السماء ...كما يقول. وفي عصر يوم (أحد) وأثناء زيارة سريعة لي لهذا البلد، قررت أخذ طائرة في هذا اليوم وبصفة اضطرارية، وقبل سفري المقرر بأيام وحمدت الله على أن يكون موعد السفر في يوم (أحد) حيث لا أشاهد نفس الشخص الذي يجلب السأم. في ظهر ذلك اليوم، وبعد وجبة دسمة اختلطت فيها المآكل ببقوليات وبصل، قررت أن آخذ حلوى تزيل المذاق الحاد لتلك المآكل، فلم أجد دكاناً صغيراً يوفر لي ما أريد مضغه لأنه يوم (أحد)، لذا طلبتُ من سائقي أن يتوقف في (سوبر ماركت) يتواجد في سوق تجاري كبير على طريق المطار: دخلت وأخذت ما أريد شراءه، وتعجلت في الذهاب إلى حيث صناديق المحاسبة لاقتراب موعد الرحلة، وبعد الدفع واستلام سند الإيصال، وُضعت كفُ شخصٍ لطالما فعل هذا على كتفي من قبل، استدرت لأجد نفس الشخص الذي سعدت أن يوم (الأحد) هو الحائل بيني وبينه، وما هي إلا ثوانٍ حتى سمعت نفس الشكوى والطلب وكلمات الاستعطاف، ضحكتُ من المفاجأة وتصاريف القدر، ووضعت يدي في جيبي لأعطيه نفس ما سبق وأن (قُرر) له من قبل يوم الأحد وبعده. غادرت المكان وأنا في حالةٍ من الدهشة ومحاولة تفسير ما حدث، غادرت وأنا أسمع ذاك الشخص يدعو الله – حسب اعتقاده – ويقول: (لك الشكر إله المسيح الذي في السموات) وبدوري كنت أقول في سري: (لك الحكمة إله المسلمين - وكل الناس - الذي في السموات والأرض.)