قرر رئيس الجمهورية اللبنانية دعوة هيئة الحوار الوطني للقاء في القصر الجمهوري في الأسبوع المقبل. وكان الرئيس قد أعلن عن تشكيلة معدَّلة للهيئة، زاد بمقتضاها عدد المشاركين من قوى 8 آذار، وأنقَصَ من عدد المشاركين المسيحيين من قوى 14 آذار. وأبرز الجُدُد في الهيئة ممثل الحزب القومي المُوالي لسوريا، أما أبرز المغيَّبين فهو النائب والوزير بطرس حرب الذي كان قوياً وفاعلاً في التشكيلة القديمة. أما الموضوع الوحيد المطروح على الهيئة لبحثه والحوار حوله فهو "الاستراتيجية الدفاعية"، أي كيف يمكن الدفاع عن لبنان في مواجهة إسرائيل، وهذا موضوع خلافي كبير ازداد وتفاقم الانقسامُ حوله وبخاصة بعد حرب عام 2006 بين إسرائيل و"حزب الله". وكانت وجهةُ نظر قوى 14 آذار وقتها أن الدفاع عن لبنان هو حقُّ الدولة اللبنانية وواجبها الحصري، فضلاً عن عدم شرعية وجود قوى مسلحة على الأرض اللبنانية باستثناء القوى الرسمية للدولة، فكيف إذا ملكت تلك القوى- والمقصود هنا "حزب الله"- قرار الحرب والسلم بمعزل عن الدولة وسياسييها وقواها الشرعية. وكانت وجهةُ نظر قوى 8 آذار، وعلى رأسها "حزب الله"، أن قوى الدولة اللبنانية ضعيفة من جهة، وأن قوى المقاومة تعملُ على الأرض اللبنانية منذ عام 1982، وقد تمكنت من تحرير أكثر الأرض المحتلة بانسحاب الجيش الإسرائيلي عام 2000. وقد تطورت الأمور، وتطوّر منطق الحرب في الدفاع عن شرعية سلاحه، خلال العامين الأخيرين. فبعد أن كان الحزب يقول إن السلاح سيستمرُّ بيده لحين تحرير مزارع شبعا، صار يقول إن سلاحه باق قوة رادعة في وجه العدوانية الإسرائيلية المنتظرة في كل لحظة، وبدون تحديد سقف أو زمان. وكان أمين عام الحزب قد ذكر في خطاب له قبل شهر أن المواجهة مع العدو صارت شاملة، وأن الحزب أعدَّ نفسه لها بما يفوق بمراحل ما كانت عليه قوتُهُ واستعداداتهُ حين خاض مواجهة عام 2006. ثم صار لتلك المواجهة الشاملة إطارُها الإقليمي حين التقى الأمين العام للحزب بالرئيسين الإيراني والسوري بدمشق أخيراً، حيث أُعلن عن قيام جبهة للمانعة والمقاومة تتضمن إيران وسوريا ولبنان (حزب الله) والقوى الفلسطينية. ثم جرى التأكيد على ذلك في اجتماع القوى الثورية الفلسطينية بطهران. وعندما أعلن رئيس الجمهورية اللبنانية عن أعضاء هيئة الحوار الوطني مستبعداً بطرس حرب، قال حرب إنه لا يُنازع الرئيس في حقِّه باختيار مَنْ يشاء، لكنه ما عاد يرى جدوى من انعقاد هيئة الحوار الوطني لمناقشة الاستراتيجية الدفاعية؛ لأن اجتماعات الهيئة المُتباعدة صارت للتخدير والطمأنة والإيهام وليس أكثر. وذلك لأن أمين عام "حزب الله" أعلن أن صيغة المقاومة الحالية هي الصيغة الوحيدة الصالحة، كما أن الجنرال عون أعلن بدوره أن سلاح "حزب الله" ليس على طاولة البحث والتفاوض. وإذا كان الأمر كذلك، فما معنى الحديث في الاستراتيجية الدفاعية، والتي كان المتفائلون والمتوسطون يرجون الوصول إلى صيغة توفيقية حولها، تعمل بمقتضاها المقاومة بالتنسيق مع الجيش اللبناني، بحيث يكون القرار بيد الجيش في مسائل الحرب. فما سبق للحزب أن نسَّق تحركاته مع أحد عندما كان هدفه المعلن تحرير باقي الأرض اللبنانية تحت الاحتلال، فكيف سينسق الآن مع الجيش، ويتخلّى عن قرار عملياته، وقد صار رأس حربة في تحالف إقليمي للمقاومة والتحرير؟! بيد أن ما يقوله الوزير بطرس حرب على أهميته، لا يكشف عن سائر أجزاء الموضوع، فقد تداعت جبهة 14 آذار، قوى وأطروحات، رغم فوزها بالانتخابات النيابية يونيو 2009. إذ غادرها بعد الانتخابات مباشرة النائب جنبلاط. ثم أقبل الرئيس المكلَّف سعد الحريري على مفاوضة قوى 8 آذار لتشكيل حكومة وحدة وطنية استمرت ستة أشهر. وذهب بعد ذلك لسوريا، وما عاد هناك حديث إلا عن التماسك الوطني، ودعم المقاومة في وجه العدو الإسرائيلي الذي يهدد كل يوم بالعدوان. أما بقية أطراف 14 آذار، والتي شاركت جميعاً في الحكومة، رغم التحفظ على بعض بنود البيان الوزاري الخاصة بالمقاومة، فقد خَفَتَ صوتُها، باستثناء جعجع، وتصريحات متفرقة للنائب الجميّل وبطرس حرب، والبطرك صفير، واكتفى السنيورة بالقول أحياناً إنه لا ينبغي إعطاء إسرائيل ذرائع للعدوان. وهكذا، وأمام الغَلَبة التي استقرت لـ"حزب الله" وحلفائه بعد الاستيلاء على بيروت في 7 مايو 2008، تطور لدى الحزب منطقٌ مؤداهُ أن البلاد مقبلة على حرب أساسها عدوان سوف تشنُّه إسرائيل. لذلك فكل من يشكك في سلاح "حزب الله" أو تصرفاته، إنما يعمل لصالح العدو. وبينما انصرف كل من الرئيس بري والجنرال عون، ورئيس الجمهورية، إلى إثارة موضوعات خلافية كبرى، أدت إلى شلل شبه كامل في العمل الحكومي، تابع الحزبُ تحذيراته من اقتراب العدوان. رئيس الجمهورية كرر مراراً المطالبة بتعديل الدستور بحيث تزداد صلاحيات الرئاسة التي انتقصها الطائف. ورئيس مجلس النواب أصرَّ على تشكيل هيئة إلغاء الطائفية السياسية، وتخفيض سنّ الاقتراع إلى 18عاماً، فردَّ الجنرال عون بمعارضة تشكيل الهيئة، ومعارضة خفض سنّ الاقتراع، والمطالبة بإعادة الجنسية إلى المغتربين، وتمكينهم من الاقتراع حيث هم في مواطن هجرتهم. وما تحقق شيء من مطالب سائر الأطراف بالطبع، لكن النظام -وليس الحكومة وحسب- بدا مشلولاً أو غير ملائم للتمكين من إدارة الشأن العام، ما دامت الخلافات بين أطرافه -حتى المتحالفين منهم- بهذا الاتساع! ماذا يعني ذلك كله؟ هناك من جهة واقع لبناني داخلي منطقه سياسة القبضة القوية التي يمارسها "حزب الله" بشكلين، الأول منع كل تصرف سياسي أو إداري مهما صغر لا يرى فيه الحزب مصلحة له، والثاني التهديد بالقوة والتخوين لكل طرف يعارضُ مشروعية سلاحه أو رؤيته للأوضاع في لبنان والمنطقة. أما الشكل الأول فمستندُه فيه ضرورة التوافق على كل شيء في مجلس الوزراء أو خارجه، بحجة أن النظام اللبناني الطائفي هو نظام توافقي بالكامل، وما لا يمكن التوافق عليه فلا يجوز إقرارُهُ أو تمريرُه بالأكثرية مثلاً. ومستندُه في الشكل الثاني أن كل المشككين في سلاحه عملاء أو متواطئون مع إسرائيل وأميركا. ولا يحتاج رجالات الحزب لقول كل شيء بأنفسهم، بل يمكنهم أن ينشروا ويُشهِّروا بكل من وما لا يرضون عبر الصحف والمحطات التلفزيونية الكثيرة التي يسيطرون عليها، والتي تتقاضى دعماً منهم! وهناك من جهة ثانية الوضع الإقليمي، والذي تأرجح في عام 2010 على وقع تطورات ملفين: ملف التفاوض الإسرائيلي الفلسطيني، وملف التفاوض الإيراني الدولي. و"حزب الله" طرف غير مباشر في الملف الأول، إذ هو مع مواجهة العدو الإسرائيلي. أما في الملف الثاني فالحزب ينتظر القول الإيراني. وقد دخل التأزُّم الملفين في الشهور الأخيرة، حيث تمكنت إيران، وتمكن الحزب استطراداً، من إعادة اجتذاب سوريا إلى رهان المواجهة. والمعروف أن سوريا ومنذ عام 2006 كانت قد تأرجحت بين المعسكرين: المعسكر الإيراني، والمعسكر الأميركي. ويبدو الآن أنها عادت مؤقتاً إلى القواعد الإيرانية. لكن العرب قرروا يوم الأربعاء 3 مارس في اجتماعهم بالجامعة العربية، تغطية السلطة الفلسطينية في اتجاهها للتفاوض غير المباشر مع إسرائيل برعاية أميركية. والملاحظ أن سوريا عارضت ذلك وحدها. وكان ذلك منطقياً، لاعتبارها نفسها ضمن جبهة المواجهة التي ضمت الرئيسين الإيراني والسوري ونصرالله وآخرين. لكن كيف سينعكس ذلك على لبنان؟ سيمضي الفلسطينيون إلى التفاوض بعد طول انقطاع. أما جبهة المواجهة، والتي ليس لها ذراع عملية غير "حزب الله" (وربما "حماس")، فالمنتظر أن تنصرف للعمل على إفشال هذا التفاوض بما تملك من وسائل. ولن يقصّر اليمين الإسرائيلي بدوره في العمل للهدف نفسه، وإن بدوافع أخرى. يقوم السلم اللبناني الحالي إذن على الإنصات لقرع طبول الحرب دونما تذمُّر أو اعتراض. أما الحرب إن وقعت -وبغض النظر عن نتائجها- فسيعتبرها الحزبُ محقِّقةً لتوقعاته ورهاناته.