منذ أن خرجت أقطار العالم النامي من براثن الاستعمار، وهي تحاول بناء دولتها الوطنية العصرية، أملاً في اللحاق بركب التقدم الذي حققته الأمم الأخرى، فإلى أي مدى نجحت هذه الأقطار في ذلك؟ وهل ما حققته حتى الآن يرضي طموحات نخبها وشعوبها؟ تشير الدلائل الراهنة إلى أن الدولة الوطنية في العالم النامي أصبحت ذات أسس تحتاج إلى وقفة تأمل عميقة، لأن ما تم التوصل إليه اتضح بأنه لا يخدم مصالح الشعوب، ولا يساعدها على مواجهة تحديات العصر التي تحيط بها. يوجد بون شاسع بين ما هو متواجد من دول وطنية في العالم النامي وبين مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، التي تقوم على المؤسسات الفاعلة ولها قيم كلية تمثل مداخل للبدء ومعالم للانطلاق. ولكي يصلح شأن الدولة الوطنية النامية لابد من وجود مشاريع حضارية لكل واحدة منها لكي تنهض بشعوبها، ولن يصلح شأن تلك الشعوب إلا عن طريق تحقيق قدر من العدالة في توزيع الدخل القومي يقوم على المصلحة المتبادلة بين أجزاء وأبناء الوطن الواحد. وبالتأكيد، إن شأن الدولة الوطنية النامية لن يصلح إلا باحترام الإنسان وإعطائه جميع حقوقه ومساعدته على الارتقاء بنفسه، وهذه القضايا لابد وأن تنبثق من أسس المخزونات القوية الخاصة بمواريث تلك الشعوب الثقافية والاجتماعية والفكرية، وعلى مواثيق حقوق الإنسان المعاصرة والأعراف والمواثيق الدولية الأخرى. الاحترام المُشار إليه لابد وأن يتضمن عقل الإنسان وسلامته وكرامته وذاته وماله وعرضه وكل ما يمت إليه من حقوق. مفهوم الدولة الوطنية يعتبر من القضايا التي تبعث على الحيرة، فرغم استعماله من قبل العلوم المشتغلة بالدولة بحرية تامة فإنهم يختلفون حول أهميتها وحول خصائصها، ورغم أن لبُنى الدولة في العالم النامي جذوراً عميقة في حقب ما قبل دخول الاستعمار إليها ثم خلال الهيمنة الاستعمارية. الدولة الوطنية في العالم النامي لها خصائص وصفات، فهي لا زالت واهنة، وبالتالي هي تنتهج العنف في تعاملها مع شعوبها وترتكز على بنى قديمة تُكون شخصيتها، وهي بذلك تعيش واقعاً مراً، وهي في الأساس تجميد لآثار الاستعمار الذي هيمن على بلدان العالم النامي مدداً طويلة، وهي لا زالت غير قادرة على تحديد أهدافها العليا فما بالك بتحقيقها. إن الأهداف العليا تتحقق وفقاً لمنظومة فكرية -ثقافية- سياسية وربما اقتصادية، لديها القدرة على استيعاب شتى تصميمات المواطنين الاجتماعية والمناطقية، مما يدفعهم إلى الولاء لها من خلال الإقناع بأنها تجسد مصالحهم وتطلعاتهم الحقيقية. هذه الأوضاع السلبية للدولة الوطنية في العالم النامي لم تتح لها ممارسة أدوارها لأن الشكل الذي أخرجها به المستعمر أثناء فترة تواجده، جاء وفقاً لمصالحه هو وليس وفقاً لمصالح الشعوب التي تعيش في كل دولة على حدة، وعندما خرج استهدف خلق حالة من البلبلة لدى إنسان العالم النامي حتى يستمر وهو محتاج وتابع له، والذي أفرز بدوره ظاهرة التمزق وضعف الشعور بالانتماء واستمرارية الرواسب القبلية والعناصر المفرقة. ختاماً، فإن الإشكالية التي تعيشها الدولة الوطنية في العالم النامي، هي أنها وإلى الآن لم تتمكن من خلق نوع من التوافق بين السلطة والحرية، فإيجاد هذا النوع من التوافق يتوقف عليه القدر من رضى الأفراد عن الحكومات مما يسهم في إضفاء الشرعية عليها وإلى بقاء واستمرارية الدولة الوطنية. لذلك بات من واجبها أن تبحث عن السبل التي تستطيع من خلالها تأمين القدر المعقول من الحرية في سبيل ضمان مصالح المواطنين.