خلال رحلتي إلى الدوحة، حيث يبدو أن المال لا يطرح مشكلة، قرأتُ في صحيفة "الجارديان" البريطانية حول النسور المفترسة التي تجني أموالا طائلة من الاقتصاديات الوطنية الفقيرة خلال الأزمة الدولية الحالية: أولئك المضاربون الذين يشترون الديون من البلدان الفقيرة جدا متوقعين أن يتولى المجتمعُ الدولي في نهاية المطاف تنظيمَ جهود تخفيف أعباء الديون. ثم يتملصون عبر عدد من الحيل، وبالأخص عبر تحويل الديون؛ ليقوموا لاحقا برفع دعاوى قضائية في محاكم صديقة بالولايات المتحدة أو بريطانيا لاسترجاع القيمة الكاملة للدين الأصلي، أو مصادرة ودائع ذلك البلد الفقير. رئيسة ليبيريا إيلين جونسون سيرليف، طلبت خلال الأيام القليلة الماضية من برلمانيين بريطانيين دعم تشريع كان يمكن أن يحول دون صدور حكم بـ20 مليون جنيه استرليني في لندن عام 2009 لصالح مستثمرين أميركيين قالت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" إنهم خربوا عملية تخفيف أعباء الديون حيث جعلوا مفاوضات تخفيف أعباء ديون ليبيريا تبدأ في الوقت نفسه الذي قاموا فيه بتحويل الديون المشتراة إلى شركات قامت لاحقا برفع دعاوى قضائية ناجحة تحت القانون البريطاني للحصول على أكثر مما قبله 97 في المئة من المقرضين الدوليين الآخرين في التسوية. والحق أن مثل هؤلاء الأشخاص يبدون أعضاء من أدنى المستويات في شركات المضاربة المعاصرة التي تتغذى على الجيف، بينما تكتظ هذه الفئة بعملاء احتيال الرهن العقاري، ومندوبي مبيعات العقارات، والمضاربين، والمختصين في إعادة صياغة الديون في السوق الحرة المعولمَة العظيمة... أولئك الذين تمكنوا خلال السنوات الأخيرة من تحويل سرقات الرهن العقاري للفقراء في أميركا إلى أزمة دولية لم يتمكن من التنبؤ بها لا كبار أساتذة التحليل المالي ولا خبراء البنوك المركزية. والواقع أن المنافسة في ممارسات من ذلك النوع مازالت محتدمة؛ ومن بين اللاعبين الأساسيين فيها الممولين الذين يشترون "مبادلات الديون المعسرة" من أجل تحقيق الأرباح من وراء أزمات الديون الوطنية التي يسعون إلى إثارتها. غير أن هؤلاء الممولين ليسوا سوى رجال "وول ستريت" أو "سيتي أوف لندن" الأنيقين الذين يبحثون عن طرق لتمويل أبنائهم في مدارس عريقة مثل "إيتون" أو "جروتون"، ورحلات التسوق التي تقوم بها زوجاتهم الثانيات. والواقع أن ثمة الكثير من الأموال التي يمكن أن تجنيها البنوكُ الدولية الكبيرة في البلدان الصغيرة الفقيرة، بل وحتى المتوسطة، خلال الأزمات العالمية. وحكومة رئيس الوزراء اليوناني جورج باباندريو قطعاً لن تقول العكس؛ فالحكومة المحافظة التي سبقتها في أثينا تلقت النصح والمشورة من مؤسسة "جولدمان ساكس" حول استعمال "مبادلات الديون المعسرة" لإخفاء ديون اليونان عن المدققين الماليين التابعين للاتحاد الأوروبي. واليوم، ها هم العملاء يتحاشون الرهان على الاقتصاد اليوناني ومن ورائه اليورو. وفي هذه الأثناء، أعلن رئيس "الاحتياطي الفدرالي" الأميركي (البنك المركزي)، "بن إس. برنانكي"، الخميس الماضي أن "الاحتياطي" سينكب على بحث ودراسة "مبادلات الديون المعسرة" المثيرة للجدل. غير أن جريتشن مورجنسون يرى في مقال له في صحيفة "نيويورك تايمز" أن استعمال برنانكي لعبارة "تأتي بنتائج عكسية" في حديثه عن "استعمال مبادلات الديون المعسرة لسحق مؤسسة أو دولة" إنما ينم عن بعض السذاجة. لكن ماذا عن الأشخاص الذين لا يديرون خدعا وحيلا، رغم أنهم ساهموا على نحو ما في خلق النظام نفسه، بل ويقومون، حتى الآن، في صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي بالترويج لخفض الرواتب وزيادة الضرائب؟ الواقع أن إحدى المشاكل البديهية في الولايات المتحدة تكمن في حقيقة أنها صدَّرت خلق الوظائف والصناعة على نحو مكثف جدا إلى الخارج، وأساءت تدبير ما تبقى، إلى درجة أنه لم تتبق تقريبا أي وظائف جيدة في البلاد. وهذه هي نتيجة التنبؤات الاقتصادية التافهة في سنوات الستينيات والسبعينيات. إن إحدى أكبر المشكلات التي تعانيها اليونان (وكذلك أيضاً إيطاليا وإسبانيا) تكمن في حقيقة أن جزءاً كبيراً من الناتج الداخلي الخام يوجد في "الاقتصاد الخفي" وغير الخاضع للضرائب. وهذه الحقيقة هي نتيجة حروب، وأجيال من الحكامة السيئة أو غير الفعالة، والشعور الوطني بعدم الأمان حتى على العائلة الكبيرة أن تعتني بأبنائها لأن "الدولة فاسدة أو لا يمكن التعويل عليها". وسبب ذلك هو التاريخ، فأي علاج يقترحه صندوق النقد الدولي لحالة عويصة كهذه؟ الواقع أن ثمة شيئا غريبا جدا عندما تنصح السلطات الدولية حكومات بضرورة ممارسة التحفيز والتقشف معا، وتوصي بتخفيف أعداد القوى العاملة، وتأخير إحالة العمال على التقاعد، وتقليص الإنفاق على النظام الصحي... في الوقت الذي تقول فيه إنه لا يمكن أن يكون ثمة انتعاش اقتصادي حتى يبدأ المستهلك إنفاق مزيد من الأموال! لكن كيف يمكن للمستهلك أن يستهلك وهو لا يملك مالا، ولا يرى مؤشرات تبعث على الأمل في تحسن الأوضاع؟ إنها أيديولوجيا اقتصادية نقدية مازالت سائدة بين الحكومات. والواقع أنه عندما اندلعت الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة قبل أن تمتد لاحقا إلى بقية العالم، كان أحد المدونين الأميركيين قد اقترح على الحكومات أن تمنح المساعدات المالية للعائلات بدلا من البنوك، وهو اقتراح كان سينجح على الأرجح. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"