تبدو قضية الحرية قضية محورية في رحلة الفكر العربي، وخاصة مع حالة التأخر في المجتمعات العربية. ونبدأ في القرن التاسع عشر، فنتيجة لنمو القوة الأوروبية وازدياد أثرها، اضطرت الدولة العثمانية لبذل عدة محاولات إصلاحية حتى تستطيع مقاومة الخطر الأوروبي في حينه، مما أدى إلى اهتمام جديد بالأفكار والنظريات الأوروبية، والتي كانت في نظر المجتمعات العربية سر قوة أوروبا. واتجه الفكر العربي المستيقظ إزاء ذلك في اتجاهين: اتجاه مرتبط بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، وكان يهدف إلى تعريف جديد لمبادئ الإسلام الاجتماعية. واتجاه ثانٍ سعى إلى فصل الدين عن السياسة وخلق مجتمع مدني. وهذان الاتجاهان مع أنهما يبدوان متعاكسين فإنهما كثيرا ما تلاقيا في أذهان مفكري العرب ومصلحيهم. فالقومية العربية في القرن العشرين تكونت من هذين العنصرين، قبل أن تؤول إلى النظريات السائدة في العالم العربي حالياً. وكانت الحملة الفرنسية على مصر عام 1789 هي الاتصال الأول بين الأوروبيين وشعوب الدولة العثمانية، إضافة إلى المدارس العسكرية التي أنشأتها الدولة العثمانية في ولاياتها مستعينة بأساتذة أوروبيين. وثمة ثلاث شخصيات من الجيل الأول من المفكرين العرب، هم رفاعة الطهطاوي (مصر) وخير الدين التونسي (تونس) وبطرس البستاني (لبنان)، كانوا مشغولين بفكرة الإصلاح في منتصف القرن التاسع عشر، لكن هذه الفكرة كانت تثير التساؤل عن ماهية المجتمع الصالح، والناموس الذي يجب اتباعه في الإصلاح المنشود، وهل يمكن استخلاصه من الشريعة الإسلامية أم من تعاليم أوروبا وتطبيقاتها؟ وفي كتابات الطهطاوي نجد أفكارا جديدة بالنسبة للعصر، منها أن خير الدنيا يتطلب خلق حضارة مدنية، وأن هذه الحضارة متبلورة في أوروبا الحديثة، وأن سر القوة والعظمة في أوروبا هو تنميتها للفنون والعلوم. وكان الطهطاوي قد نوه قبل غيره بفكرة الحرية، ووحد بينها وبين مفهوم "العدل والإنصاف" في الإسلام، ثم اعتبرها شرطا لتقدم الأمة وتمدنها. أما خير الدين التونسي، فينظر في كتابه "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"، إلى تقدم أوروبا مؤكداً أن سره لا يكمن في كونها مسيحية، إذ المسيحية دين يرمي إلى السعادة في الآخرة لا في الدنيا، ولا خوف على المسلمين من اعتناقها إن اقتبسوا الحضارة الأوروبية. ويرى خير الدين أن من أركان الحضارة الأوروبية مسؤولية الحكومة أمام الأمة، ووجود نظام نيابي، وحرية الصحافة... وهذه الأركان الثلاثة لها صدى قوي في صميم النظم الإسلامية، فليس النواب سوى العلماء والأعيان، أي أهل الحل والعقد، وليس الوزير المسؤول إلا الوزير الصالح في الإسلام، الذي يبذل النصيحة من غير خوف ولا تحيز، وما الحكم النيابي وحرية الصحافة إلا نظام يقابل مبدأ الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فاعتناق النظم الأوروبية، في نظره تنفيذ لروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها الأساسية. وهكذا يقرن التونسي الحرية بجملة الحقوق المتعلقة بها. ويبدو من كل هذا أن المشكلة الأولى التي واجهها الطهطاوي وخير الدين التونسي هي تبرير إدخال المسلمين في العالم الحديث مع احتفاظهم بمبادئهم الإسلامية. وبعد ذلك الرعيل الأول وقناعتهم الكاملة بالحرية كسبيل للتقدم، جاء رائدان للفكرة العربية هما: الأفغاني وعبده، فمثلا رحلة جديدة نحو الحرية في العالمين العربي والإسلامي. عبد العظيم محمود حنفي باحث مصري ينشر بترتيب خاص مع مشروع "منبر الحرية"