خلال القرن الثامن عشر، ظلت روسيا القيصرية وتركيا العثمانية في صراع مستمر بينهما للسيطرة على آسيا الصغرى، لاسيما الأراضي المحيطة بالبحر الأسود. ولطالما رغبت روسيا في أن تكون لها قواعد عسكرية دائمة في الموانئ الدافئة الواقعة على البحر الأسود، حيث تكون لها فرصة الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط عبر مضايق المياه التركية. وقد ساعد ضعف الإمبراطورية العثمانية على تحقق ذلك الحلم الروسي. وبحلول القرن التاسع عشر، كانت روسيا قوة راسخة في منطقة البحر الأسود، إضافة إلى إقامتها لقاعدة بحرية رئيسية في سيباستوبول الأوكرانية. بيد أن تنامي القوة العسكرية الروسية في مياه البحر الأسود، نُظر إليه على أنه مهدد لبريطانيا وفرنسا اللتين لهما إمبراطوريات شاسعة ممتدة في القارة الآسيوية. وهذا ما دفعهما إلى أن تقررا مقاومة تنامي القوة الروسية. وكان ذلك هو السبب أيضاً وراء اندلاع الحرب الأوكرانية في الفترة بين عامي 1854 و1856. ثم انتهت الحرب بموافقة روسيا على فتح مياه البحر الأسود أمام ملاحة جميع السفن التجارية، إلى جانب موافقتها على تقييد حركة السفن الحربية في مياه المضايق البحرية. وخلال الحرب العالمية الأولى انضمت تركيا إلى التحالف الثلاثي. ورغم تمكنها من صد الحملة البريطانية المكلفة بفرض سيطرة المملكة العظمى على المضايق المائية -حملة جاليبولي- فقد خسر العثمانيون كل شيء تقريباً بنهاية عام 1918، وتضاءلت تركيا من إمبراطورية عملاقة إلى جمهورية لا تزيد مساحة أراضيها كثيراً عما هي عليه اليوم. وخلال الفترة الممتدة بين عامي 1919 و1945، لزمت تركيا هدوءا محلوظاً في مياهها الخلفية، وأعلنت عن حيادها إبان الحرب العالمية الثانية. غير أنها قررت الانحياز إلى جانب الدول الغربية خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، فأعلنت انضمامها إلى قوات حلف "الناتو". بل أصبحت تركيا على خط المواجهة الأمامي مع الاتحاد السوفييتي ودول حلف "وراسو" المؤيدة له. وقد أسفر انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 عن إعادة تشكيل خريطة البحر الأسود ثانيةً، نتيجة لاستعادة جمهوريتي جورجيا وأوكرانيا لاستقلالهما من روسيا، وقد كانت كلتاهما جمهوريتين سوفييتيتين، بينما خرجت بلغاريا ورومانيا من حلف "وراسو". كما أدى انتهاء التوترات الأيديولوجية والسياسية التي سادت طوال فترة الحرب الباردة، إلى إطلاق موجة جديدة من التنافس بين الدول على خطوط إمداد الطاقة المارة بمنطقة البحر الأسود. وبسبب موقعها الجغرافي الذي يصل بين القارتين، الآسيوية والأوروبية، فقد برزت مجدداً منطقة البحر الأسود باعتبارها معبراً مهماً للغاية وممراً لنقل إمدادات الطاقة المنتجة في بحر قزوين إلى أوروبا. وتعتمد روسيا اعتماداً كبيراً على البحر الأسود، في تصدير منتجاتها النفطية. ذلك أن نحو مليون برميل من النفط الروسي، يتم ترحيلها يومياً بواسطة الناقلات إلى منطقتي البحر الأبيض وآسيا من ميناء نوفروسيسك الروسي الواقع على سواحل البحر الأسود. وتمر ناقلات النفط هذه عبر مضيقي البسفور والدردنيل التركيين المعروفين بشدة ازدحام الملاحة البحرية فيهما. وإلى جانب ذلك يتم تصدير حوالي 200 ألف برميل من النفط الخام المنتج في روسيا وكازاخستان، بواسطة الناقلات المبحرة من ميناء أوديسا الروسي عبر مياه البحر الأسود والمضايق البحرية التركية. وفي مسعى منها لأن تزيد من أهمية دورها في مجال الطاقة، أيدت تركيا إنشاء خطوط أنابيب طاقة متعددة، قصد منها تفادي تلك المعابر البحرية المختنقة. أول هذه المشاريع خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان، الذي اكتمل إنشاؤه في عام 2006. وتصل سعة هذا الخط إلى نحو مليون برميل يومياً، ويقوم بنقل الإمدادات النفطية من أذربيجان إلى البحر الأبيض المتوسط. كما يؤدي البحر الأسود دوراً حيوياً للغاية في إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا وتركيا، حالياً وفي المستقبل على حد سواء. ويقوم خط "بلو ستريم" الروسي للغاز الطبيعي، بإمداد تركيا بحاجاتها من الغاز الطبيعي، عبر خط أنشئ بطول قدره 246 ميلاً تحت مياه البحر الأسود. وفي الوقت نفسه، يتوقع أن يمتد خط الأنابيب الروسي "ساوث ستريم" المقترح، لمسافة تصل 560 ميلاً تحت مياه البحر الأسود. غير أن خط أنابيب "نابوكو" المنافس المقترح من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، يتوقع له أن يتفادى الخطوط التي تسيطر عليها روسيا، فضلاً عن إمداده لأوروبا بمنتجات الغاز الطبيعي التي لا تسيطر عليها موسكو. ولا يزال كلا المشروعين في مرحلة تطويرهما. هذا ويتوقع لخط أنابيب "نابوكو" أن يكون أكثر جدوى مالية، فيما لو أمكن استغلال احتياطات إيران الهائلة من الغاز الطبيعي بصفة خاصة. غير أن هذا لن يحدث بالطبع، قبل أن تتمكن واشنطن وطهران من تحسين العلاقات بينهما. والملاحظ الآن أن منطقة البحر الأسود قد شهدت تحولات استراتيجية هائلة، خلال السنوات القليلة الماضية. وكلما ازداد الطلب العالمي على منتجات الطاقة، كلما استمر تنامي الدور الاستراتيجي لمنطقة البحر الأسود، باعتبارها معبراً رئيسياً لمنتجات الطاقة. لكن، وعلى الرغم من تنامي أهمية الحصول على موارد الطاقة، فإن من شأن النزاعات التقليدية بين هذه الدول المتجاورة ساحلياً، أن تتصاعد إلى مواجهات مسلحة بينها. ولم تكن الحرب القصيرة التي دارت بين روسيا وجورجيا في أغسطس من عام 2008، سوى انعكاس للاضطرابات التي تعانيها المنطقة. وفي الوقت نفسه، لا تزال التوترات القائمة بين جورجيا وروسيا من جهة، وبين تركيا واليونان من جهة أخرى بسبب المسألة القبرصية، ثم بين أذربيجان وأرمينيا من جهة ثالثة... تمثل تهديداً لاستقرار المنطقة، إضافة إلى قدرتها على تهديد أهم ممرات الطاقة العابرة منها.