عانى اللبنانيون أكثر من أسبوعين من آثار نفسية وإنسانية حادة على إثر تحطم الطائرة الإثيوبية بعد إقلاعها بدقائق من مطار رفيق الحريري في بيروت وهوت في البحر وعلى متنها 90 راكباً لقوا حتفهم جميعاً. سجية الانفتاح الإعلامي والثقافي والاجتماعي في هذا البلد يسمح بربط الحوادث والأقوال بالإيديولوجيات والتنازعات الفكرية والعقائدية، لكن الحادث وحّد جميع اللبنانيين، واستبعد نظرية المؤامرة من الحادث، بعيداً عن انتماءاتهم واتجاهاتهم العقائدية، بهدف الوصول إلى الحقيقة. والبحث عن المعلومات والإشارات التي تحدد سبب سقوط الطائرة. ذلك أن موضوع إقلاع طائرة – حيث تقلع مئات الآلاف من الطائرات يومياً – ولا أحد يهتم لذلك ، ولكن ما إن تنحرف طائرة عن مسارها على الأرض، فإن الكاميرات والأقمار الاصطناعية تنشط لتغطية الحدث. ورغم حضور الجهات المختصة مثل : الدفاع المدني والصليب الأحمر والبحرية اللبنانية وأمن المطار والهيئة العليا للإغاثة، والجيش والأمن الداخلي في مسرح الحادث منذ الدقائق الأولى لسقوط الطائرة، فإن عدم العثور على جميع جثث الركاب والصندوق الأسود في الساعات الأولى التالية للحادث ظل سؤالاً محيراً ومربكاً لجميع الجهات، حيث مازالت هنالك 72 جثة لم يتم انتشالها رغم العثور على أجزاء من الطائرة ومن ضمنها الصندوق الأسود. وفي حادث كهذا تنتشر الشائعات بصورة كبيرة، ويرتبك أهل الضحايا بصورة أكبر، ولعل غموض البحر كان السبب الرئيسي في عدم الوصول إلى الجثث. ناهيك عن أن بعض المصادر قدرت أن تكون الطائرة قد هوت إلى عمق 1400 متر تحت سطح البحر، ما استدعى إحضار سفينة متخصصة من الخارج كي تباشر عمل انتشال الضحايا والعثور على الصندوق الأسود، ذلك أن المعدات والأجهزة الموجودة لم تكن مؤهلة للبحث في هكذا أعماق. ولقد تفاوتت الآراء حول جدية وإنسانية التغطيات الصحفية والتلفزيونية، وبات المجال مفتوحاً للعديد من التكهنات والآراء التي ساهم فيها كل من قابلته الكاميرا، سواء من ناحية شكل الإقلاع أو موقع السقوط أو من ناحية الأشياء التي وصلت إلى الشواطئ اللبنانية من حطام وأحمال الطائرة. وتبين فيما بعد أن الصندوق الأسود وقمرة القيادة، كانا قد وجدا على عمق 45 متراً قبالة (الناعمة) وليس على عمق 1400 متر في قاع البحر كما تم الاعتقاد. ونظراً لعدم تحديد ناطق رسمي يدلي بمعلومات حول الحادث وتطورات البحث، فقد تباينت المعلومات وتناقضت في بعض الأحيان، لدرجة أن أحد الوزراء علق على المشهد قائلاً:"جريمة الاستهتار بمشاعر الناس بعدما بلغ الكذب ذروته بهدف البروز الإعلامي ". كما أشارت وسائل إعلام لبنانية إلى تضارب في صلاحيات فرق الإنقاذ الأجنبية واللبنانية. كما قال مسؤول في إحدى المحطات التلفزيونية، وأشار إلى أنه طُلب من 4 صحف تابعة لجهة حكومية ألا يكون خبر الطائرة في بدايات الصفحات الأولى. ورغم عدم بروز اتهامات أو أسباب سياسية وراء الحادث، اعتبر البعض سقوط الطائرة لغزاً، لأن العواصف التي مّرت خلالها الطائرة لا يمكن أن تسبب الحادث. ولعل تحليل الصندوق الأسود يوضح حقيقة الأمور إن لم تتدخل الأصابع السياسية، على غرار ما حدث في حوادث مماثلة في مناطق أخرى من العالم، حيث صمت الصندوق الأسود، وصمت الجميع. كما بالغت بعض التقارير الصحافية في تحدي مشاعر الناس، عندما تحدث عن أن الركاب الذين بقوا مربوطين إلى كراسيهم قد أكلتهم الأسماك، وهذا حديث غير إعلامي، ويجرح مشاعر ذوي الضحايا، كما أنه حديث لا إثبات له من الناحية الموضوعية. كارثة الطائرة الإثيوبية في مياه بيروت تلزم جميع الدول أن تكون لديها خطة طوارئ لمثل هذه الكوارث. وأن تكون هنالك جهة محددة تتولى نشر التصريحات وإصدار البيانات، بل إن المحطات الفضائية مهما بلغت من درجة الحرية والانفتاح يجب ألا تزايد على مأساة الناس، وتزيد في تعميق جراحاتهم، عبر كلمات ومقابلات غير مسؤولة، من شواهد عيان قد لا يكونون ملمين بالموضوع، أو لا يختارون كلمات تناسب الموقف. ولقد أعلن رئيس مجلس النواب اللبناني يوم 3 فبراير لوسائل الإعلام بأن "الطائرة كانت تحمل فيما تحمل لبنانيين وغير لبنانيين لهم أقارب وأمهات وآباء وأخوة، ولا يجوز هذا اللعب الإعلامي الذي يحصل في الأخبار، كما حصل أمس الأول وقبله فيما يتعلق بموضوع الطائرة". ولقد سرت اتهامات من البعض بأن قائد الطائرة – الذي يتمتع بخبرة 20 عاماً من الطيران – لم يلتزم بتوجيهات برج المراقبة بعيد إقلاعه في جو عاصف للغاية، ولم تكشف المصادر سبب إصراره على الإقلاع، في حين أكدت جميع المصادر على أن تحطم الطائرة لم ينجم عن عمل إرهابي. كما تحدثت مصادر عن "استغلال" الحادث من قبل بعض الأطراف (لجلب أطراف أجنبية إلى مسرح الحادثة، وما يكلفه ذلك من أموال). نعود إلى التغطية الإعلامية! ففي حدث كهذا، يتعلق بحياة وكرامة البشر، لابد وأن تكون العبارات المتعلقة بالأخبار والتقارير منتقاة بعناية، بحيث لا تعطي مدلولات أو مضامين جارحة أو مخيبة للآمال أو تبث الأمل في نفوس الناس؛ خلال سير علميات البحث. كما لا يجوز – في مثل هذا الحادث – التكهن أو الاعتقاد أو لربما الإشارة إلى اللون أو الدين أو هيئات الملابس أو المقتنيات الدالة على الدين أو العقيدة، أو اتهام الكابتن، أو برج المراقبة، وطرح استنتاجات قبل كشف الصندوق الأسود والتحقق من المعلومات التي يحتويها ذاك الصندوق. والحياد والحذر من الأمور المهمة في أمر كهذا. بالطبع كل جهة ستدافع عن نفسها، ولقد شهدنا حوادث مماثلة بأن الطيار كان من أكفاء الطيارين، والطائرة جديدة وأجريت لها الصيانات الدورية، وسمعة الشركة فوق الشبهات، وأن ما حدث خلل فني أو قدر من عالم الغيب. ولقد تم التكتم على الأسباب الأساسية لسقوط تلك الطائرات لاعتبارات سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية، وتم حفظ الملفات بعد أن قضى مئات الأبرياء نحبهم. نكرر بأهمية إنشاء فرقة للطوارئ لمواجهة حدث كهذا في كل بلد! كما أن تعليمات محددة يجب أن تصدر للصحافيين والإعلاميين حول اللغة التي يجب أن تستخدم في مثل هذه الحوادث. وألا يكون "نهم" السبق الصحفي مدعاة للتضليل أو جرح مشاعر الناس المنكوبين بأهاليهم – كما أن إسناد دور بث التصريحات الصحفية لمسؤولين مؤهلين، بحيث لا يتم التأثير على سير عمليات التحقيق أو مشاعر الناس؛ وضرورة ألا تتدخل السياسة أو المصالح في قضية إنسانية كسقوط طائرة.