عندما أعلن رئيس وزراء السلطة الفلسطينية الدكتور سلام فياض في آخر العام الماضي أن لديه خطة لإقامة مؤسسات الدولة خلال عامين، لم يؤخذ كلامه مأخذ الجد إلا في إسرائيل. فقد تعود العالم على أن القادة الفلسطينيين يتحدثون كثيراً ويعملون قليلاً، وأن معظم أقوالهم من نوع "الكلام المدهون بزبد". كما أن المشهد الفلسطيني في عمومه لا يبدو مبَّشراً في أي مدى زمني منظور. لكن الأمر في إسرائيل مختلف. فقد عودوا أنفسهم على عدم الاستهانة بأي سيناريو مستقبلي حتى إذا بدا بعيداً، ومهما كانت قدرتهم على منعه. ولم يكن الإعلام الإسرائيلي فقط هو الذي تعامل مع كلام فياض عن الدولة الفلسطينية باهتمام شديد، وإنما مسؤولون كبار ومؤسسات سياسية وأمنية أيضا. وبدأ النقاب يُكشف عن مدى اهتمام الإسرائيليين بدور فياض عقب مشاركته في مؤتمر هرتزيليا السنوي المشهور الذي يعتبر المنتدى الأبرز لمناقشة قضايا الأمن القومي للدولة العبرية. وقد سُلطت الأضواء على مشاركة فياض في هذا المؤتمر، الذي عُقد الشهر الماضي، بمناسبة الخطاب القوي الذي ألقاه فيه وأثار خلافاً في أوساط الفلسطينيين على مبدأ حضور الرجل الثاني في السلطة الوطنية مؤتمراً يهدف إلى تدعيم أمن إسرائيل. فقد انصرف بعض الفلسطينيين إلى جدل لا يجدي حول مشاركة فياض في مؤتمر انفض أصلاً، بينما انشغل الإسرائيليون بمضمون خطابه الذي أكد فيه مجدداً أنه يعمل لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية على الأرض. كما اهتموا بالطريقة التي تحدث بها والصورة التي قدمها لنفسه باعتباره رجل دولة ليست موجودة ولكنه يثق في أنها ستكون هنا في المدى القصير وليس الطويل. ولم يكن الرئيس الإسرائيلي بيريز وحده هو الذي بدا فياض بالنسبة إليه كما لو أنه بن غوريون الذي بنى مؤسسات الدولة العبرية على الأرض أولاً قبل إعلانها عام 1948. كما لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يوصف فيها فياض بأنه "بن غوريون الفلسطيني". لكن حضوره القوي في مؤتمر هرتزيليا أثار جدلا حول هذا الوصف في أوساط نخبة الحكم والجمهور الإسرائيليين، سواء من اتفقوا مع دعوة بيريز إلى دعم خطة فياض، أو من أغاظهم حديث الرئيس الإسرائيلي الذي كان أحد رجال بن غوريون. ويحدث ذلك بينما يسود الاعتقاد على المستوى العربي في أن الدولة الفلسطينية صارت أبعد منالاً مما كانت عليه في أي وقت خلال العقدين الأخيرين. ويمكن تفسير هذه الفجوة الهائلة بين تقدير بعض الإسرائيليين وكثير من العرب لفرص الدولة الفلسطينية باختلاف مفهوم هذه الدولة على الجانبين. فالدولة الفلسطينية، وفق المفهوم السائد على المستوى العربي، تقام على الأرض المحتلة عام 1967 كلها بما فيها القدس الشرقية كاملة كعاصمة لهذه الدولة، على أن يضمن اتفاق السلام الذي ستقام على أساسه حلاً عادلاً (أو على الأقل معقولاً) لقضية اللاجئين. وإذا حدث تبادل للأرض، فلابد أن يكون في أضيق الحدود وألاَّ يكون على حساب تواصل أراضي الدولة التي يُفترض أن تكون مستقلة ذات سيادة. أما الدولة الفلسطينية، كما يفهمها الإسرائيليون الذين يقبلون إقامتها، فهي نتيجة لمفاوضات تحدد حدودها وكيفية ضمان أمن إسرائيل في ظلها وتسعى إلى تسوية لقضية القدس واللاجئين بدون أية مرجعية وبمعزل عن قرارات الشرعية الدولية. وبين هؤلاء من يرفضون ابتداء التفاوض على قضية القدس. والأكيد أن فيَّاض يدرك حين يتحدث عن دولة فلسطينية في المدى القصير أن هذه الدولة لا يمكن أن تكون وفق المفهوم العربي. لكن هذا لا يعني أنه مستعد لقبول دولة وفق المفهوم الإسرائيلي، أي دولة ليس لها من اسمها نصيب. ورغم أنه ليس هو من يحدد الخط الذي يحكم المفاوض الفلسطيني، فإن المفاوضات تخرج عن نطاق اختصاصه، فلا بد أن يكون لديه تصور ما للدولة التي يتطلع إليها في زمن قريب، لأن الحديث عن أية خطة يفترض التخطيط الذي يتعامل مع هدف محدد وليس غائما أو ضبابياً. والحال أن من يفكر تفكير فيَّاض هذا، ويعمل ضمن حدود صلاحياته، إنما يتحرك في الجزء الأكثر وضوحاً في مشروع الدولة الفلسطينية، وهو حدود هذه الدولة والأراضي التي يمكن أن تقام عليها. فالجزء الغائم في هذا المشروع هو بالأساس وضع القدس واللاجئين، بالإضافة إلى الأراضي التي ستُقتطع من الضفة الغربية وتلك التي ستُضم إلى الدولة الفلسطينية (من أراضي 1948) في مقابلها. ورغم أن الخلاف مايزال مستمراً على مساحة هذه الأراضي، فقد تخلى المفاوض الإسرائيلي خلال المفاوضات التي أجريت عام 2008، في عهد أولمرت، عن طلب إدراج منطقة وادي الأردن أو جزء منها ضمن هذه المساحة. وإذا كان مرجحا أن تمضي أية مفاوضات قادمة في الاتجاه نفسه، بسبب حرص إسرائيل الآن على عدم ضم سكان فلسطينيين جدد في الوقت الذي تعيد تعريف نفسها كدولة يهودية، فبإمكان فيَّاض أن يخطط لتوسع زراعي وصناعي في هذه المنطقة المحاذية للأردن، ولتطوير أشكال جديدة من السياحة العلاجية وغيرها عند مدخل البحر الميت. ومع ذلك، تظل مشكلة فيَّاض أو أي قيادي فلسطيني يفكر بطريقته العملية هي التواصل الجغرافي بين أجزاء الدولة التي يعمل من أجل بناء مؤسساتها. فمواقع الكتل الاستيطانية التي تريد إسرائيل ضمها تعوق هذا التواصل، وخصوصاً إذا أصرت على المساحة التي طالبت بها في مفاوضات 2008 وهي 6.3 في المائة من أراضي الضفة حيث يقيم نحو 375 ألف مستوطن. فهذه المواقع توجد بشرق القدس على مساحة تعادل تقريباً مساحة تل أبيب، وبين القدس وبيت لحم، وفي منطقة نابلس، وقرب جنين حيث يقع تجمعان استيطانيان كبيران بخلاف المستوطنات الأربع الصغيرة التي تقرّرَ إخلاؤُها ضمن خطة الانسحاب من قطاع غزة. غير أنه ليس صعباً تسوية هذه المشكلة بشكل ما إذا أمكن حل المشكلة الأعظم المتعلقة بوضع القدس واللاجئين. فباستثناء هاتين القضيتين الشائكتين، لا توجد مشكلة أخرى بلا حل بما في ذلك التواصل الجغرافي بين الضفة والقطاع والذي يمكن تحقيقه عبر صيغة "الممر الآمن" بين الخليل وغزة رغم الخلاف الذي مايزال قائما على مسألة السيادة على هذا الممر. وهكذا، ربما يكون بإمكان فياض العمل من أجل وضع البنية الأساسية لدولة فلسطينية ما قد تؤسس في المستقبل، لكنه لا يملك القرار في المفاوضات التي سيتوقف عليها إمكان إقامة هذه الدولة والصورة التي قد تكون عليها إذا أمكن التوصل إلى اتفاق بشأنها، ولا بشأن الخيارات الأخرى حال فشل الخيار التفاوضي.