في الحادي والعشرين من الشهر الماضي أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية ضم "الحرم الإبراهيمي" في الخليل المحتلة، "وقبر راحيل" في بيت لحم، إلى قائمة "المواقع التراثية ذات الأهمية التاريخية واليهودية والصهيونية في إسرائيل". وأشارت وسائل الإعلام العبرية إلى أن نتنياهو خضع لضغوط اليمين المتدين في قراره هذا، وكرر رئيس الحكومة في مستهل جلسة حكومته الأسبوعية التي اتخذت هذا القرار ما قاله قبل شهر في مؤتمر "هرتسليا" من أن الضمان لوجود إسرائيل "لا يتعلق فقط بمنظومات الأسلحة أو بقوة الجيش والاقتصاد، وإنما بتعزيز معرفتنا وحسنا الوطني الذي نكتسبه من الآباء ونورثه للأبناء، وفي قدرتنا على تبرير ارتباطنا بالأرض". ليست المفاجأة في مضمون القرار، فقد تعودنا من الحكومات الإسرائيلية عامة ومن حكومات اليمين منها خاصة أن تأتي من القرارات بما يمعن في انتهاك الحقوق الفلسطينية والعربية، ويضرب عرض الحائط بقواعد القانون الدولي، ويبالغ في الاستخفاف بالآخر مسلماً كان أم مسيحياً. وللعلم فإن الحرم الإبراهيمي مقسوم إلى جزءين أحدهما للمصلين المسلمين والثاني لليهود منذ المجزرة التي ارتكبها مستوطن يهودي في عام 1994، وأسفرت عن استشهاد 29 مصلياً فلسطينياً. كذلك فإن القدس معلنة من قبل الحكومة الإسرائيلية منذ سنوات ضمن قائمة المواقع التراثية الإسرائيلية. وإنما تمثلت المفاجأة في توقيت القرار، فهو يأتي في وقت تفترض الرشادة فيه أن تحسن إسرائيل التدبير لمواجهة العديد من الأزمات التي خلقتها بنفسها فإذا بها تزيد عليها أزمة جديدة، فإسرائيل أصبحت موضع اتهام من دوائر دولية عديدة الآن تدرك أنها تعرقل جهود السلام، على الأقل نتيجة إصرارها على مواصلة نشاطها الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهي متهمة بالتدبير والاستعداد لإشعال حرب جديدة في المنطقة سوف تكون حرباً إقليمية كبرى، وشبه مدانة بالتورط في اغتيال القيادي الفلسطيني محمود المبحوح أثناء وجوده في دبي الشهر قبل الماضي، بكل ما حملته ملابسات هذا التورط من شبهة الاعتداء على سيادة عدد من الدول وتهديد أمن مواطنيها، نتيجة استخدام جوازات سفر مزورة اعتمدت على وثائق أصلية مسروقة لمواطنين تابعين لهذه الدول. وبدلاً من أن تسعى إسرائيل إلى إيجاد مخرج من هذه الأزمات أو بعضها على الأقل، فقد زجت بنفسها في أتون أزمة جديدة، فهل يعود هذا إلى غطرسة القوة، أم إلى التعود على غياب ردود الفعل المؤثرة، العربية عامة والفلسطينية خاصة؟ أم أن هذه هي طبيعة الأمور في ظل حكومة يمينية متشددة كحكومة نتنياهو؟ ويخطئ من يظن أن القرار بضم الحرم الإبراهيمي وقبر راحيل إلى قائمة التراث اليهودي ذو دلالة دينية فحسب، ذلك أننا لا يجب أن ننسى أن هذين الموقعين موجودان على أراضي الضفة الغربية التي يفترض أن تكون إقليم الدولة الفلسطينية القادمة، فكيف يستقيم هذا، إلا إذا كان معنى القرار أن إسرائيل ليس في نيتها أبداً التخلي عن شبر من أراضي الضفة؟ وإلى ذلك فإن القرار يجهض الحديث عن أي مفاوضات قادمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وحتى لو استؤنفت المفاوضات فإن ذلك سوف يكون نذير سوء جديدا للمفاوض الفلسطيني طالما أنه يتلقى الضربات الإسرائيلية دون أن يتأثر تفضيله لخيار التسوية، كما أن المفاوضات في هذه الحالة سوف تبدأ عند نقطة أسوأ من تلك التي بدأت بها آخر جولة من جولات المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، وهو ما تعودنا عليه عامة من إسرائيل: سياسة تراكم المكتسبات الإسرائيلية بحيث تستطيع وقت اللزوم وبشق الأنفس وإذا اضطرت لذلك أن تقدم "تنازلات" من هذه المكتسبات التي لا تمس قضايا أصلية في العملية التفاوضية، فتبدو هذه التنازلات كبادرة حسن نية تهلل لها القوى الدولية المنحازة لإسرائيل، فيما هي غير ذات علاقة بموضوع التفاوض الأصلي. ويلفت النظر بعد ذلك ضعف ردود الأفعال العربية، وهي حتى لا تستحق التحليل على هذا النحو لنمطيتها وتهافتها ومطالبتها الآخرين "بتحمل مسؤولياتهم"، رغم أن أقوى إدانة للقرار جاءت من أوساط اليسار وحركات السلام في إسرائيل، وأن قوى إسرائيلية عقلانية عديدة رأت في القرار فجاجة، يبدو أن كثيراً من العرب لم يروها. هذا وقد تساوت ردود الأفعال العربية الباهتة مع مثيلتها على صعيد المؤتمر الإسلامي و"اليونسكو" والأمم المتحدة. أما الموقف الأميركي مما جرى فقد بدا أقوى من الموقف العربي، وقد وصفته صحيفة "يديعوت أحرونوت" بأنه موقف غاضب، وأشارت إلى أن مسؤولين كباراً في الإدارة الأميركية طالبوا نتنياهو بالظهور أمام التليفزيون ليعلن أن لا نية لدى إسرائيل لتغيير الوضع القائم في الأماكن المقدسة، وأن نائب وزيرة الخارجية الأميركية الذي يترأس الوفد الأميركي إلى الحوار الاستراتيجي مع إسرائيل، نقل إلى نظيره الإسرائيلي تحذيره من أن تتسبب تصرفات حكومة نتنياهو بحريق كبير في المنطقة. وأشارت الصحيفة إلى أن أجواء الحوار كانت مشحونة بالغضب. وللأمانة فإن رد الفعل الوحيد الذي تناسب مع الموقف جاء من الشارع الفلسطيني عامة ومن مدينة الخليل خاصة، وثمة توقعات باحتمال انفجار انتفاضة جديدة في ظل السياسات الإسرائيلية العدوانية. وهكذا تستمر إسرائيل في سحبنا إلى القاع يوماً بعد يوم، ولا يبدو أن ثمة أملاً في مواجهة عربية أو إسلامية فاعلة، وإنما تأتي المفارقة من أن الحكومة الإسرائيلية تُسحب معنا بأفعالها الذاتية إلى القاع نفسه، فهي تعاني على نحو متزايد من رفض دولي لسياساتها المتطرفة الحمقاء، ناهيك عن الانتقادات الموجهة لها داخل إسرائيل ذاتها. غير أنه بينما يوجد لهذه المعضلة الإسرائيلية حل سهل يتمثل في أن يضيق الناخبون بهذه الحكومة اليمينية المتطرفة الحمقاء فيسقطونها في الانتخابات القادمة، ويتخلصون من أوزارها فإن بيننا نحن العرب وبين الصعود من القاع عمليات إعادة بناء بالغة التعقيد. وفي نفس اليوم الذي أعلنت فيه إسرائيل قرارها ضم الحرم الإبراهيمي ومقبرة راحيل إلى قائمة التراث اليهودي، دون رد فعل عربي يذكر، طردت إيران مضيفاً يونانياً جوياً من الخدمة، وألغت ترخيص إقامته في إيران لأنه استخدم تعبير "الخليج العربي" بدلاً من "الفارسي"... فعن أي مواجهة عربية لإسرائيل نتحدث؟