منذ نشأته يدفع بلد كلبنان ثمنين في وقت واحد: ثمن تخلّفه الذي يشاطر فيه منطقته، وثمن عجز المنطقة عن الإقلاع بما يرمي عليه أعباء ذاك العجز بالاستفادة من ضآلة حجمه ولكنْ أيضاً من تناقضاته الداخليّة. والحال أنّ موقع البلدان الصغيرة في الثقافة السياسيّة الشعبيّة للعالم العربيّ لعب دوماً دوره السلبيّ. ذاك أنّ الأفكار الدينيّة المسيّسة وكذلك القوميّة العربيّة والفلسطينيّة الراديكاليّة ثم اليساريّة، هذه جميعاً تضافرت لتولّد شعوراً حيال الكيانات الصغرى، كلبنان، يتراوح بين العداء والاحتقار. فهي، في نظرها، التعبير الأوضح عن "التجزئة الاستعماريّة"، كما أنها لا تملك الجيوش التي يُعوَّل عليها لخوض المعارك المصيريّة، ثم إنها أضيق وأقلّ من أن تشكّل قاعدة للإنتاج والاقتصاد الصناعيّين اللذين تمجّدهما الدعوات التوتاليتاريّة وشبه التوتاليتاريّة. لقد جمع لبنان، منذ استقلاله في 1943، بين منازعات داخليّة تشدّه بعيداً عن التشكّل كدولة- أمّة، وبين الاستخدام الخارجيّ لتلك التناقضات بهدف تقويض البلد نفسه وتأبيد ضعفه وتوسيع تناقضاته. وقد اتّفقت جميع القوى السياسيّة والطائفيّة منذ 1920 على اعتماد النظام الديمقراطيّ البرلمانيّ المرفق بتقاسم المقاعد النيابيّة والمواقع الإداريّة طائفيّاً. ولكنْ في 1947 أُجريت انتخابات عامّة اشتُهرت بتزوير رئيس الجمهوريّة بشارة الخوري لها، من أجل أن يحظى بأكثريّة مطواعة تجدّد له. ومنذ تزوير تلك الانتخابات المصحوب بتفشّي الفساد، فضلاً عن اتّهام بعض القادة المسلمين للخوري بالإخلال بالشراكة لمصلحة الاستئثار الرئاسيّ، تردّت العلاقات السياسيّة كثيراً. ثمّ في أواخر الأربعينيات فُصمت الوحدة الجمركيّة مع سوريّا وتمّت تصفية المصالح المشتركة بين البلدين، وكان هذا طبيعيّاً مع نشوء دولتين واحدتهما تعطي الأولويّة في قيادة اقتصادها للقطاع الخاصّ والمبادرة الحرّة فيما الثانية تذهب أولويّتها إلى تعزيز النزعة الحمائيّة. ولكنّ تلك الخطوات سبقتها ورافقتها تهديدات سوريّة متنوّعة، صارت سُنّة في علاقة البلدين مع كلّ اختلاف يطرأ بينهما. ومع اندلاع الحرب العربيّة- الإسرائيليّة الأولى في 1948، تبدّى الفارق الملحوظ بين ضعف الحماسة المسيحيّة للانخراط في تلك الحرب والحماسة الإسلاميّة المفرطة لها. ولكنْ في 1949 تبدّى أن الفرصة سنحت، مبدئيّاً، لقطع الطريق على تأثيرات الموضوع العربيّ- الإسرائيليّ على لبنان. فبعد مجزرة أنزلتها إسرائيل بعشرات اللبنانيّين في قرية حولا الجنوبيّة، خريف 1948، وبدت امتداداً للحرب العربيّة- اليهوديّة الأولى على الجبهة اللبنانيّة، وُقّعت هدنة مع الدولة العبريّة. ولأن الهدنة تعريفاً توقف القتال من دون أن تقيم سلاماً، حُفظ استقرار لبنان لسنوات قادمة، أكان ذلك حيال إسرائيل أم حيال الجوار العربيّ. ولكن الانقلاب السوريّ في 1949 وما انبثق عنه من حكم عسكريّ في دمشق، شجّعا الانقلاب الأوّل الذي نفّذه القوميّون السوريّون وانتهى بإعدام زعيمهم أنطون سعادة صيف ذاك العام. وكان أن اغتال القوميّون السوريّون بعد عامين تماماً رئيس الحكومة اللبنانيّة رياض الصلح إبّان زيارة له إلى الأردن. ولمّا كان الصلح الركيزة المسلمة للاستقلال اللبنانيّ، مقابل الخوري بوصفه الركيزة المسيحيّة، بدأ الاختلال يضرب عمق الصيغة اللبنانيّة الجديدة. كذلك فعلى رغم القناعة السائدة والصحيحة يومذاك بأن الشيوعيّة ليست خطراً على لبنان، بدأت الجهود الغربيّة في الشرق الأوسط، منذ أواخر 1950، تتمحور حول خطّة لإقامة قيادة دفاعيّة عامّة تشارك فيها بلدان الشرق الأوسط. وبدا أن هذا المشروع الأميركيّ البريطانيّ الفرنسيّ يحمّل البلد الصغير أكثر مما يحتمل، وإن كان في وسعه أن يحميه من سوريا وإسرائيل ومن أيّ طموح في ضمّه. ولكنّ الفعاليّة الوحيدة لذاك التطوّر أنها كشفت مجدّداً هشاشة التركيبة القائمة. وعلى أيّة حال أُسقط الخوري في 1952 عبر ما أسماه اللبنانيّون "ثورة بيضاء"، وهو ما كان إشارة إيجابيّة على وجود أمل ما في إمكان التوفيق بين لبنان الجديد وبين السياسة بمعناها الحديث. ومع هذا حفّت بتلك الإشارة الإيجابيّة إشارات سلبيّة جدّاً. ذاك أن بعض أبرز معارضي الخوري من السياسيّين كانوا قد بادروا، منذ 1949، إلى الاتّصال بحاكم سوريّا العسكريّ حسني الزعيم طلباً لدعمه، ولم يتردّد رئيس حكومة سابق كعبد الحميد كرامي في أن يتحدّث عن وعود قطعها الزعيم للمعارضة اشتملت على تزويدهم بأسلحة وأعتدة حربيّة. وهكذا ورث العهد الثاني للرئيس كميل شمعون تركة متضاربة. فهو استأنف الازدهار القائم والمؤهّل مع الزمن لأن ينقل البلد من النموّ والانحصار في العاصمة ومناطق الجبل القريبة منها إلى التنمية التي تمتدّ إلى سائر أرجائه. إلا أنّ الصدام بين مصالح لبنان في عهده وبين سياسات جمال عبدالناصر المتصادمة مع الغرب بدا حتميّاً. وقد تغذّى هذا على إقدام شمعون في 1957 على تزوير موسّع للانتخابات كان هدفه، كما حال الخوري في 1947، تأمين برلمان مطواع. على أن السلوك المذكور، إضافة إلى ما عبّر عنه من نزعة استبداديّة وضيق أفق وفساد، دلّ أيضاً على أمرين آخرين: فقد عكس النزاع صداماً بين الدولة المركزيّة، وقاعدتُها في جبل لبنان المسيحيّ حيث صُفّيت الملكيّات الزراعيّة الكبرى في أواخر القرن التاسع عشر وأصبحت الطبقة الوسطى قائدة الحراك السياسيّ، وبين زعماء المناطق الطرفيّة وكبار الملاّكين الزراعيّين ذوي الأكثريّة المسلمة. وكذلك كان سلوك شمعون محكوماً بالخوف من الجوار الراديكاليّ، فوجد نفسه مدعوّاً لأنْ يعزّز استئثاره السلطويّ ويضاعف الاعتماد على القاعدة المسيحيّة. وفي النهاية شهد لبنان حربه الأهليّة الأولى بعد الاستقلال، في 1958، بعد أشهر قليلة على قيام الوحدة المصريّة- السوريّة. وهذا إنّما استدعى استجابة الولايات المتّحدة لطلب شمعون إرسال قوات من "المارينز" التي وصلت فعلاً إلى بيروت. وهو أيضاً كان شبيهاً بما حصل في الأردن الذي حماه الجنود البريطانيّون يومذاك من خطر الناصريّة إيّاها. ولربّما تغيّرت الأسماء والعناوين فيما لا تزال القضايا هي نفسها.