بعد المعلومات الأولية التي قدمتها شرطة دبي عن اغتيال محمود المبحوح القيادي في "حماس"، نفت إسرائيل مسؤوليتها عن عملية الاغتيال. خرج قائد عام شرطة دبي ليقدم أمام الإعلام أدلة موثقة بالصور عن الفريق الذي اغتال المبحوح مع رواية كاملة عن العملية. قدم الأسماء الكاملة والجوازات الدبلوماسية المستخدمة والصادرة عن دول أوروبية. بدت إسرائيل في ورطة مرة جديدة خصوصاً بعد ورود معلومات إضافية تشير إلى أن العملية نفذها جهاز الموساد الإسرائيلي الذي أعلم رئيسه مائير داغان، رئيس الحكومة نتنياهو بها، وقيل أيضاً إن فرقة التنفيذ اجتمعت مباشرة مع نتنياهو. العملية هزت الحكومات الأوروبية المعنية بالجوازات ليس لأنها استهدفت رمزاً من "حماس" بل لأنها استندت إلى جوازات سفر بهويات مزورة. استدعى وزراء الخارجية المعنيون وزير الخارجية الإسرائيلي إلى اجتماع في مقر الاتحاد الأوروبي. ناقشوا معه العملية وخطرها. نفى علمه بها. أكد أن لا أدلة دامغة على مسؤولية إسرائيل وقال: "لو أن أحداً ما قدم مثل هذه المعلومات خارج إطار المقالات الصحافية لكنا قمنا بالرد، لكن بما أنه ليس هناك وقائع ملموسة فليس هناك حاجة للرد". وأضاف ليبرمان: "هناك ميل عربي لاتهام إسرائيل بكل شيء. وهناك في الشرق الأوسط الكثير من الصراعات الداخلية بين الدول والمجموعات التي ليست ديمقراطية مثل إسرائيل! يعني بوضوح، أن المسؤول عن عملية الاغتيال مجموعات غير ديمقراطية أو دول أخرى غير ديمقراطية مختلفة مع بعضها. أما إسرائيل فدولة ديمقراطية لا تقدم على مثل هذه الأعمال. هكذا يدّعي ليبرمان ودولته التي أعلنت أكثر من مرة أنها تريد قتل هذا أو ذاك من القادة الفلسطينيين، بل إن بعض رموز دولة الإرهاب هذه دعوا إلى قتل الفلسطينيين كلهم. وبالممارسة اليومية القتل والإجرام والإرهاب والتهجير والتعذيب والإذلال والإفقار والتجويع والتعطيش مستمر على أيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي تأكيداً وترجمة لديمقراطية إسرائيل! ومع ذلك، فإن متابعة قضية المبحوح تؤكد الإحراج الإسرائيلي، فالمدعو ميخائيل بودنهايمر أحد المشبوهين بالمشاركة في جريمة الاغتيال، هو الوحيد الذي لم يكن يحمل جواز سفر مزوراً. وكشف النقاب عن وجود مكتب له وضعت لافتة أمامه كتب عليها اسمه في "هرتسيليا" في إسرائيل، ولكنها نزعت بعد اكتشافها وذهاب صحافيين إسرائيليين إلى المكان للاستقصاء عن معلومات! إضافة إلى ذلك فإن حركة اتصالات سياسية ودبلوماسية وإعلامية واسعة تقودها الحكومة الإسرائيلية للتملص من المسؤولية، وبدأت الحديث عن احتمال تغيير رئيس الموساد وامتصاص النقمة. وتختلف وتيرة نبرة التعبير في الداخل الإسرائيلي عن هذا الموضوع. لكن الجميع يتحدث عن التمسك بـ"الغموض " في سياق إستراتيجية عمل المخابرات الإسرائيلية. وعندما يعلنون ذلك أمام مثل هذه الجريمة والكم من المعلومات الموثقة التي تشير إلى مسؤولية إسرائيل عن العملية، فإن هذا الغموض الاستراتيجي يصبح الغموض الواضح. أو يمكن تسميته وضوح الغموض. أو وضوح الغموض الاستراتيجي... الوزير "دافيد بن أليعاز" أحد المسؤولين الأمنيين السابقين قال: "لا تعنيني التفاصيل المهم بالنسبة إلي النتيجة". أي أن المبحوح قد قتل... هل ثمة وضوح أكثر من ذلك في الذهنية الإسرائيلية؟ وأكد "أليعاز" أن عمليات من هذا النوع لا يمكن أن تتم دون موافقة رئيس الحكومة غير المضطر لاطلاع الحكومة عليها. وزير الإعلام الإسرائيلي قال: "بعد أشهر لن يعود أحد للتكلم عن هذه العملية". وفي بروكسل، أدان وزراء خارجية الدول الأوروبية المعنية بجوازات السفر المستخدمة الجريمة. لكنهم لم يشيروا لا من قريب ولا من بعيد إلى مسؤولية إسرائيل. وجاء ذلك بعد لقائهم بوزير خارجيتها. إذاً لماذا دعي هو دون غيره؟ أليس لأن إسرائيل هي المشتبه بها؟ هل اقتنعوا بأن المعلومات ليست مؤكدة؟ هذا يعني لا بد من المتابعة مع حكومة دبي والأخيرة من المفترض، والطبيعي أنها لن تترك هذه القضية تتم هكذا، لأنها تضر ببلدها وأمنه واستقراره وهي سابقة خطيرة. لكن ما جرى في بروكسل يؤكد ما سبق وذكرته في التعليق الأول على الجريمة، وهو أن إسرائيل ستهرب من هذه العملية، وأن الغرب سوف يساندها. وفي أقصى الحالات فإنهم يتعاملون مع الموضوع - إذا اعتبروه أزمة – أنه أزمة بين أهل بيت والأصدقاء ولن يسمح لأحد بمحاكمة وإدانة إسرائيل. أما "المبحوح" فقد قتل، والرسالة قد وصلت. وفي هذا التوقيت بالذات حركت أجهزة الإرهاب الإسرائيلي موضوع الحرم الإبراهيمي وقبر راحيل وضمهما إلى الأملاك الإسرائيلية، الأمر الذي أثار ضجة كبرى وسببت تحركات ومواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. القرار محضر. والنية قائمة في سياق سياسة مصادرة المزيد من الأراضي وتهويدها. لكن توقيته مدروس لأن مفاعيله سوف تتقدم على خبر جريمة الاغتيال وتغطي عليه وسينتقل الحدث من مكان إلى آخر! هذه هي السياسة الإسرائيلية. وهذا هو الأسلوب الإسرائيلي. وهذا ما يجب أن يشكل حافزاً إضافياً بالنسبة إلى الفلسطينيين من جهة والمسؤولين في دبي من جهة أخرى للاستمرار في متابعة الجريمة وتحديد المسؤولين عنها رغم ما سيعترض هذا العمل من ضغوطات ومناورات ومحاولات لفلفة هي سمة التعاطي الدائم مع الجرائم السياسية التي تحصل في معظم دول العالم. وإذا كان من غير المؤكد الوصول إلى نتائج حاسمة في التحقيق وإلى إدانة إسرائيل وتحميلها المسؤولية، فإن المؤكد أن لهذه الجريمة تداعيات ستؤدي إلى مزيد من العنف والتوتر في المنطقة عموماً، وربما في أكثر من جهة في العالم ما دامت الحمايات السياسية والمعنوية والدبلوماسية والأمنية ستبقى متوفرة لإسرائيل وتتقدم على الشروط والمعايير والقرارات والاتفاقات الدولية وحقوق الإنسان. هذا الأمر سيعطي إسرائيل كما هي الحال حتى الآن، المزيد من الفرص لتنفذ أعمالها الإرهابية " بالغموض الواضح" تماماً، وتحصل على التبرئة الواضحة وسيدفع بالآخرين إلى مواجهتها بكل ما يمتلكون من أسلحة. كل هذا لن يكون في مصلحة الأمن والسلام والاستقرار والمعنيون بالحمايات يتحملون قسطاً كبيراً من المسؤولية.