في خضم الجدال المحتدم أبداً على الساحة الفكرية حول دور الدين في الحياة العامة، تبقى الحجة الأكثر تداولا في التصور الليبرالي أن القرارات السياسية هي من اختصاص الفكر العلماني، هذا الفكر الذي ينأى بنفسه عن أي تحيز أيديولوجي، أو أجندة دينية أو أخلاقية مؤهل أكثر من غيره للحفاظ على مصالح الناس جميعاً دون تمييز بين معتقدهم الديني وانتمائهم الشخصي، غير أن الفصل القاطع بين العلماني والديني سرعان ما يتداعى تحت البحث والتمحيص الذي يخضعه له الكاتب والمفكر الأميركي، ستيفين سميث، في الكتاب الذي نعرضه هنا بعنوان "تهافت الخطاب العلماني". فحسب هذا الخطاب المدعي للعقلانية، لا بأس من تبرير تشريع قانوني مثلا بأنه يخدم الاقتصاد، أو يطور النظام الصحي، أو يعزز الأمن القومي... لكن لا مجال لتفسيرات غيبية كالقول بأن القانون يتماشى مع الكتاب المقدس ومع النص الديني، أو يوافق مشيئة الله! وحتى في المرات القليلة التي يسمح فيها الفكر العلماني بتبرير غيبي، فلأن ذلك يوافق الصالح العام؛ مثل السماح بتبرير منع السرقة من منطلق ديني، ما دام المنع منصوصا عليه في القانون الوضعي، وما دام التبرير الديني يفيد المجتمع. غير أنه خلف ذلك الصراع بين العلماني والديني يكمن الفصل السياسي والفكري بين المجالين الخاص والعام، وتلك الثنائية التي تتوزع بين ما يتعلق بالروح والخلاص التابعين للدين، والقضايا الأخرى المرتبطة بالصالح العام للمجتمع التي تقع ضمن اختصاص الممثلين المنتخبين، ويمكن تسويتها من خلال الفكر العلماني. وبالاعتماد على هذا التقسيم تتوزع العقل والدين مجالات منفصلة بحيث يحتكر الفكر العلماني مجالات التجارة والعلم والقانون والزراعة والتعليم والسياسة الخارجية... فيما يُترك للدين المجال الخاص المقتصر على التعبد. بيد أن هذه الصورة يدحضها العديد من المفكرين ومن ضمنهم "سميث" بتأكيده أن الخطاب العلماني لا يجيب على كافة الأسئلة، بل يهمل الكثير من القضايا المهمة بالنسبة للحياة الإنسانية، وهنا يأخذنا سميث في رحلته الممتعة لتفكيك الخطاب العلماني وإظهار تهافته؛ فهو يرى أنه لا وجود لتبريرات علمانية يمكنها تفسير اختيارنا طريقاً معيناً دون سواه، والمشكلة ليست في أن التفكير العلماني عاجز عن الاضطلاع بما يدعيه الدين من بحث عن المعنى الكامن في الأعماق والتركيز على القيم، بل أسوأ من ذلك يعجز هذا التفكير عن الاضطلاع بمهمته التي أناطها بنفسه والمتمثلة في توصيف العالم بطريقة تسمح لنا بالتقدم إلى الأمام، فرغم أن التفكير العلماني يتيح لنا تحليلات إحصائية تدعمها معطيات التجارب العلمية، إلا أنه لا يقول لنا ماذا تعني تلك المعطيات، ولا كيف يمكن توظيفها. ومهما تعددت المعلومات فهي لا تفضي من تلقاء نفسها إلى استخلاص الدروس، أو توضيح الطريق الذي تشير إليه، إذ تبقى هذه العملية رهينة التقييم الذاتي للعقل الإنساني. فحسب سميث تظل الخطوة التالية المتمثلة في الانتقال من مرحلة المراقبة إلى مرحلة التقييم وإصدار الحكم، صعبة إن لم تكن مستحيلة، ذلك أنه كما يقول "تفشل الموارد المبتورة المتاحة لدى الخطاب العلماني والمنحصرة ضمن المجال العام في الوصول إلى جواب حول قضايا مثل الإجهاض، أو الزواج المثلي، أو احتمال تشريع التعذيب". فبتجريد العالم من "البعد المعياري" الذي يسمح لنا بالتقييم، ويصوغ نظرتنا إزاء القضايا المطروحة، وبالتعامل مع هذا العالم كمعطى لا تسبقه الأفكار، يتساءل الكاتب: "كيف يمكن استخلاص الدروس الأخلاقية حول العدالة فقط بالاعتماد على الحقائق المجردة"؟ والحقيقة أن هذا المأزق يتعدى الخطاب العلماني إلى فلسفة الأنوار التي حشرت نفسها في زاوية ضيقة عندما تخلت عن الأسس الميتافيزيقية واكتفت بـ"تمحيص وملاحظة الحقائق". لكن رغم هذا التعالي عن الحمولة القيمية الذي أدخلها مأزق إنتاج المعنى، يرى الكاتب أن التفكير العلماني يصوغ أجندته الخاصة ويلجأ إلى استخدام قاموس معياري من خلال استعارة الأفكار نفسها التي يراها غير مقبولة. ومن تلك الأفكار التي لا مناص من استيعابها في التفكير العلماني، هناك "التصورات المرتبطة بتحديد الأهداف في هذا العالم، أو الطبيعة الغائية التي تحدث عنها أرسطو، أو في بعض الأحيان استخدام مصطلح الأقدار" ، وهي التصورات التي أبعدها الخطاب العلماني تماماً لأنها تفترض وجود منظومة من القيم تسبق العالم المحايد كما تصفه العلمانية، العالم القائم على المعلومات والحقائق والذي لا شأن له بالأفكار. لكن كيف تُطوع العلمانية تصورات قبلية عن العدالة والمساواة والإنصاف وتجعلها جزءاً من عدتها المصطلحية؟ يجيب المؤلف بالقول إنها تقوم بذلك عبر ادعائها أن مفاهيم مثل العدالة والمساواة وغيرهما قائمة بذاتها ولا تنحاز إلى طرف دون الآخر، وبالتالي تبقى وفية للخطاب العلماني، لكن الكاتب يرد أن مثل هذه التصورات تبقى أفكاراً مجردة ولا تحمل قيمتها إلا إذا قورنت بمعايير سابقة عليها لأن مفاهيم العدالة والمساواة والإنصاف... ليست في ذاتها أكثر من أطر لفظية بحاجة إلى محتوى أيديولوجي، أو ديني، أو حزبي... لذا يخلص المؤلف إلى أن "إدارة حوار ذي معنى داخل البناء العلماني لا يستقيم دون تهريب التصورات من الخارج". زهير الكساب ------- الكتاب: تهافت الخطاب العلماني المؤلف: ستيفين سميث الناشر: جامعة هارفارد تاريخ النشر: 2009