هل من المقدر على العالم الذي نعيش فيه أن يواجه دورات لا تنتهي من العنف والحرب؟ وهل يمكن للدول المتحاربة والمتنافسة أن تتحول إلى دول صديقة أو شريكة، تعمل مع غيرها على التأسيس للسلام الدائم؟ وهل يمكن للأعداء أن يتحولوا يوماً إلى أصدقاء؟ هذه الأسئلة وغيرها هي ما يحاول "شارلز إيه كينتشان"، أستاذ الشؤون الدولية في جامعة "جورج تاون"، والزميل الرئيس في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، والعضو السابق بمجلس الأمن القومي الأميركي، تقديم الإجابة عليها في كتابه "كيف يصبح الأعداء أصدقاء: مصادر السلام الدائم" الذي نعرضه في المساحة التالية. في سبيل الإجابة على تساؤلاته، يبين "كينتشان"، الذي تتميز كتاباته عادة بالبحث عن القواسم المشتركة في حقل العلاقات الدولية، والتركيز على كيفية إقامة العلاقات على أساس المصالح المشتركة، كيف يمكن للدول أن تتجنب المنافسة الجيوبوليتكية مع الدول الأخرى، وكيف تتمكن من إحلال السلام والصداقة محل العداء والكراهية في علاقاتها، وذلك من خلال تحليل جذاب، وعرض تاريخي شيق وشامل يغطي مختلف أنحاء المعمورة، كما يغطي قرونا عديدة بدءاً من القرن الثالث عشر حتى الآن. وفي سياق ذلك التناول، يكشف المؤلف الكثير من الوقائع المتعلقة بتحقيق السلام بين الدول المتحاربة، ويوضح للقارئ كيف أن التعاطي الدبلوماسي مع الأعداء لا يعتبر استرضاءً لهم، ولا يعتبر دليل ضعف من جانب الدولة التي تبادر بفتح باب التقارب مع الدول الأخرى المنافسة أو المعادية -كما يعتقد ذلك الكثيرون- وإنما هو في حقيقته شيء ضروري ولازم لوأد الخلافات ورأب الصدع والكشف عن جذور الصراعات وأسبابها الكامنة. والمؤلف يتبنى، فيما يتعلق بتحقيق السلام بين الدول، رؤية قد تختلف عن رؤى غيره من المفكرين السياسيين والاقتصاديين، الذين يرون أن التجارة والاعتماد الاقتصادي لدولة ما على الأخرى كثيراً ما يؤديان إلى التخلي عن الصراع بين الدول المتنافسة، ويدفعانها نحو السعي إلى تحقيق السلام، إذ تتوصل من خلال التجربة إلى أن مناصبة الدول الأخرى العداء والانخراط في صراع معها، لا يؤدي إلى شيء في النهاية، بل قد تفوق الأضرار المترتبة عليه كافة ما قد يجلبه من فوائد، وذلك كما تبين أحداث التاريخ. ويرى المؤلف أن العمل الدبلوماسي هو الوسيلة الأنجع والأكثر فعالية لتحقيق التقارب والسلام بين الدول، وأن الجهود الدبلوماسية كفيلة بإيجاد المخرج والحل لكافة القضايا العالقة والخلافية، والوصول إلى التنازلات والحلول الوسط وإلى التسويات الاستراتيجية التي تؤدي في النهاية إلى بناء الثقة والتغلب على ميراث الشك مما يساعد في نهاية المطاف على تحقيق التقارب والسلام المنشود. ويستخدم الكاتب عبارة دالة لتأكيد أهمية العمل الدبلوماسي، هي أن "الدبلوماسية هي العملة المعتمدة للسلام". فالدبلوماسية في رأيه مطلوبة ليس فقط لحل النزاعات ورأب الصدوع بين الدول، بل مطلوبة أيضا لبناء المجتمع العالمي ككل. وهو يطرح كذلك فكرة جديرة بالنظر وقد يختلف عليها معه كثيرون من المفكرين السياسيين، وخلاصتها أن طبيعة الأنظمة لا تهم كثيرا في مجال التعامل الدبلوماسي، أو على أقل تقدير لا تهم بالدرجة التي يعتقدها البعض، وأن على الدول والولايات المتحدة على وجه الخصوص، أن تتعامل مع الدول الأخرى بناءً على سلوكها في مجال السياسة الخارجية وليس بناء على طبيعة نظامها. فهي لا يجب أن تقصر تعاملاتها الدبلوماسية على الدول الديمقراطية فقط وتستبعد الدول غير الديمقراطية أو الاستبدادية أو الدكتاتورية بصرف النظر عما قد يؤدي إليه ذلك من إضرار بالأمن القومي الأميركي. كذلك يبين المؤلف أنه عندما يكون هناك تشابه بين دولتين متنافستين أو حتى متحاربتين في التكوين العرقي للسكان، أو في الطبيعة الجغرافية، أو في طبيعة النشاط الاقتصادي، أو في طبيعة النظام السياسي... فإن ذلك يجعل احتمالات تحقيق السلام بين تينك الدولتين أقوى منها في الحالات التي لا يتوافر فيها مثل ذلك التشابه، علاوة على أنه يجعل من احتمال استمرار السلام بينهما لفترة أطول أقوى أيضاً. بل المؤلف يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول إن وقائع التاريخ أثبتت أن العلاقات بين هذه الدول -بعد إحلال السلام- يمكن أن تتطور لتصل إلى حد الاتحاد والاندماج الكامل. ويورد في سبيل التدليل على صحة رأيه عددا من نماذج النجاح والفشل في إحلال السلام. فمن النماذج الناجحة ذلك الخاص بالسلام الذي تحقق بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى التي كانت تحتلها في بدايات القرن العشرين. ومن النماذج الفاشلة نموذج الدول الأوروبية التي كانت قد نجحت بعد عام 1815 في التوصل إلى سلام دائم بينها، لكن ذلك السلام انهار بعد الثورات التي وقعت في أوروبا عام 1848. ومن نماذجها أيضا ذلك التقارب الفريد بين الاتحاد السوفييتي وبين الصين في بدايات العقد الخامس من القرن الماضي والذي تحول إلى عداوة مفتوحة ومريرة مع بداية الستينيات. سعيد كامل الكتاب: كيف يصبح الأعداء أصدقاء: مصادر السلام الدائم المؤلف: شارلز إيه. كينتشان الناشر: برينستون يونيفرستي برس تاريخ النشر: 2010