لا شك أن منظمات حقوق الإنسان تمثل عادة صوت الضمير والأخلاق في الديمقراطيات لما تكشفه من حقائق، مهما كانت مريرة، ولممارستها الرقابة على صناع القرار والحكومات لاحترام وظائف وفضائل الديمقراطية. وفي الجهة المقابلة تعكس الجماعات المتطرفة الوجه القبيح للديمقراطية، فهي توظف حرية الرأي والتعبير التي تكفلها الديمقراطية لتزييف الحقيقة والالتفاف عليها وملاحقة المدافعين عنها وحتى الهجوم عليهم في المنابر الإعلامية، ثم زرع الشقاق في المجتمع من خلال التسويق لأيديولوجيات إقصائية استئصالية. وفي إسرائيل توجد في الوقت الراهن أصوات متباينة تبايناً يعبر عن هذين الاتجاهين. فهنالك اتجاه يعكس الميول الإنسانية باعتبارها هي المحافظ على صوت الضمير في المشروع الإسرائيلي بتحذيره من الظلم الذي ينطوي عليه المشروع الصهيوني والجور الذي يلحقه بالفلسطينيين. واتجاه آخر متشدد تمثله الفصائل الفاشية التي أسسها "فلادمير جابوتنسكي" وأتباعه من قادة الإرهاب السابقين وسياسيي حزب "الليكود" مثل بيجن وشامير اللذين سيصبحان فيما بعد رئيسي وزراء في إسرائيل وسيعملان على نشر الأفكار العنصرية لتبرير رفضهم لحقوق الفلسطينيين. ومع الأسف تم حسم هذا الصراع بين الاتجاهين لصالح التيار المتشدد الذي استفاد من مناصب الدولة الإسرائيلية لإضفاء المشروعية على أطروحاته الانعزالية المتطرفة، وفي هذا السياق يمكن اعتبار نتنياهو ومؤيديه الورثة الشرعيين لهذا الاتجاه، فيما تشكل جماعات الدفاع عن حقوق الإنسان في إسرائيل الوجه الآخر المنافح عن حقوق الفلسطينيين. ولكن خلافاً للتيارات الإنسانية التقليدية التي تعرضت لانتكاسات متتالية في تاريخ إسرائيل ترفض جماعات الدفاع عن حقوق الإنسان الإسرائيلية التزام الصمت والابتعاد عن الساحة، وفي معركتهم المتواصلة مع المتشددين سواء داخل الحكومة أو خارجها يرى العديد من المراقبين أن هذه الحركات ربما تكون قد سجلت انتصارها الأهم منذ فترة طويلة. وذلك الانتصار هو ما يطلق عليه اليوم تأثير تقرير جولدستون الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة وكشف عن ارتكاب الجيش الإسرائيلي في حربه على غزة خلال السنة الماضية جرائم حرب، واقترافه بالحصار على غزة جرائم ضد الإنسانية. وليس من قبيل المبالغة القول إن تقرير جولدستون هو أكثر تنديداً في لهجته بالتصرفات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين من أي قرار أممي سابق، ولاسيما أن تقرير جولدستون حظي بتغطية إعلامية واسعة بما عرى انتهاكات إسرائيل المعتادة لحقوق الفلسطينيين، والهجمات التي تشنها على المدنيين، وقد وصل تأثير التقرير إلى درجة أن نتنياهو اعترف مؤخراً بحقيقة التقرير في خطاب أمام "الكنيست" عندما أشار إلى التهديدات التي تواجه إسرائيل وعدد منها خطر الصواريخ والخطر النووي ثم أضاف "ما أسميه بخطر جولدستون لأن هذا الأخير بات رمزاً لظاهرة متنامية تسعى إلى حرمان إسرائيل من الحق في الدفاع عن نفسها". ومن الأسباب المهمة التي جعلت تقرير جولدستون يحظى بهذا التأثير اعتماده على وثائق ومعلومات وفرتها جماعات الدفاع عن حقوق الإنسان الإسرائيلية، وهو ما أضفى عليه مصداقية، تلك المصداقية التي تعززت أكثر بسبب الحملة المسعورة التي تعرضت لها المنظمات غير الحكومية على يد الحكومة والجهات اليمينية في إسرائيل مباشرة بعد اتضاح دورها في إمداد جولدستون بالمعلومات الضرورية لصياغة التقرير. وفي إطار الهجوم على الجماعات المدافعة عن حقوق الإنسان اتهمها وزير الداخلية الإسرائيلي، إيلي بشاي، بأنها "تهدف إلى تدمير إسرائيل"، فيما نُقل عن نائب رئيس الوزراء، موشي يعلون، وصفه لتلك المنظمات المدافعة عن الفلسطينيين بأنها "عدو من الداخل" وحث على ضرورة التحقيق مع رموز تلك المنظمات. وأكثر من ذلك شنت منظمة يمينية تسمى "إيم تيرتزو" حرباً قذرة على "الصندوق الإسرائيلي الجديد" الذي يساهم في تمويل 16 منظمة إسرائيلية، عملت مثل يد خفية، ساعدت جولدستون في الحصول على المعلومات الأساسية التي بنى عليها التقرير، وقد أدت حملة التشهير ضد الصندوق إلى استقالة رئيسته "نعومي شازان" بعدما اشتدت عليها وطأة الضغوط وتعرضت لانتقادات لاذعة في الأوساط الحكومية واليمينية. وللتصدي للحملة الإعلامية المسعورة ضد المنظمات الإسرائيلية غير الحكومية أرسلت منظمة "السلام" الإسرائيلية الشهيرة ومعها 12 منظمة أخرى رسالة إلى الرئيس و"الكنيست" ورئيس الوزراء تحتج فيها على الحملة الممنهجة التي تستهدف جماعات الدفاع عن حقوق الإنسان في إسرائيل، بل إن منظمة "السلام" وعلى رغم التضييق الحكومي والرسمي واصلت حملتها لفضح الممارسات الإسرائيلية المنتهكة لحقوق الفلسطينيين من خلال كشفها للتلفيقات ومحاولات التغطية التي تضمنها الرد الإسرائيلي على تقرير جولدستون. وأكثر من ذلك تابعت منظمة "السلام" تحقيق السلطات الإسرائيلية مع الجنود الذين سُجلت ضدهم شكاوى في حرب غزة لتخلص إلى أنه بعد أكثر من عام على الحرب لم تتم إدانة سوى جندي واحد بجريمة السرقة بعد أن أصر ضباط الجيش على رفض ما جاء في التقرير، معتبرين أن الجيش الإسرائيلي هو "أكثر الجيوش تمسكاً بالأخلاق في العالم". وبالتزامهم بالحقيقة والدفاع عن حقوق الإنسان مهما كلف الأمر استطاعت المنظمات غير الحكومية في إسرائيل تسجيل نقطة مهمة ضد التيار اليميني المتغلغل في الحكومة والحياة السياسية الإسرائيلية بتقديمها لمعلومات أساسية اعتمد عليها جولدستون في صياغة تقريره المدين للدولة العبرية والكاشف لجرائمها.