في يوم الجمعة الماضي، أعلنت خمس دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي رغبتها في إزالة الأسلحة النووية التي تنشرها الولايات المتحدة فوق أراضيها والتخلص من عبئها، الذي بات يثقل عليها ويثير معارضة شعبية متزايدة، وهذه الدول هي مجموعة "البينيلوكس"، التي تضم هولندا وبلجيكا ولوكسمبورج، بالإضافة إلى ألمانيا والنرويج. ومن المتوقع أن تطلب الدول الخمس من حكومات حلف شمال الأطلسي مساندتها في رغبتها تلك قبل اجتماع نيويورك في شهر مايو القادم. وفي توضيحه لحيثيات القرار، أشار وزير الخارجية الهولندي أن الرغبة في التخلص من الأسلحة النووية المنتشرة على أراضي بلاده، جاءت تماشياً مع المناخ العالمي الجديد، الذي يسعى للحد من الانتشار النووي، ولانتهاز الفرصة التي وفرها أوباما من خلال دعوته لعالم خال من الأسلحة النووية، وبعيد عن احتمالات التسرب النووي، أو سقوط تلك الأسلحة في أيدٍ غير أمينة تستغل لأغراض الإرهاب. والحقيقة أن الدعوة الأوروبية الأخيرة تدعمها اعتبارات سياسية قوية باتت تؤثر على صناع القرار في أوروبا، وتدفعهم إلى التشكيك في استمرار الأسلحة النووية الأميركية فوق ترابهم، ولا بد إذن من ربط الدعوات الأوروبية الأخيرة بالمناخ السياسي العام، مثل سقوط الحكومة الائتلافية الهولندية في 20 فبراير الجاري عندما اختلف أقطابها المتمثلون في حزبي "العمال" و"المسيحيين" حول مطالب حلف شمال الأطلسي للبلاد بتمديد فترة خدمة الجنود الهولنديين في أفغانستان لما بعد السنة الجارية، وهو ما أثار خلافاً حاداً بين السياسيين الرافضين للتمديد ونظرائهم المصرين عليه، لينتهي الأمر بفض الائتلاف وسقوط الحكومة. ومن المتوقع أن تعمل أي حكومة جديدة على سحب الجنود الهولنديين من أفغانستان، ووقف المشاركة في الحرب الدائرة هناك، رغم انخراط هولندا في المجهود الحربي منذ العام 2006 باعتبارها عضواً في حلف شمال الأطلسي، بحيث أرسلت الحكومة 1600 جندي إلى ساحة المعركة وفقدت حتى الآن 21 جندياً. والأمر لا يختلف كثيراً في ألمانيا حيث تواجه المستشارة أنجيلا ميركل ضغوطاً شعبية متزايدة تطالبها بسحب القوات الألمانية من أفغانستان وإعادتها على وجه السرعة إلى أرض الوطن، وفي الجانب الآخر من الأطلسي يبدو أن كندا قررت أيضاً وضع حد لمشاركتها في الحرب الأفغانية، وأعلنت عام 2011 كموعد نهائي لإعادة قواتها إلى البلاد وإنهاء انخراطها في حرب كلفت الحكومة الحالية غالياً بسبب المعارضة الشعبية الواسعة والمطالب المتصاعدة بإرجاع الجنود إلى كندا. وبالطبع استأثرت بريطانيا، وكما العادة بحصة الأسد في الانخراط مع أميركا في الحرب الأفغانية بإرسالها أكبر قوة بعد الولايات المتحدة، لكن القاعدة السياسية لحزب "العمال" في بريطانيا ضعيفة في ظل الانتقادات اللاذعة التي توجه لرئيس الوزراء، جوردون براون، في وسائل الإعلام. وبالإضافة إلى بريطانيا، أرسلت فرنسا قوات خاصة إلى أفغانستان، لكن رغم هذه المشاركة الواسعة ، فإنها تبقى في جوهرها رمزية، وجاءت فقط استجابة لاستخدام الولايات المتحدة للبند الخامس من ميثاق حلف شمال الأطلسي، الذي يفرض على جميع الأعضاء المشاركة في المجهود الحربي. ومع أن الولايات المتحدة تخصص أموالًا طائلة لدعم مشاركة قوات البلدان الصغيرة في حلف شمال الأطلسي، وتروج لهذه المشاركة باعتبارها تحالفاً حقيقياً منخرطا في الحرب الأفغانية، وعازما على تقويض "القاعدة" وإقامة نظام جديد في أفغانستان متسامح وموال للغرب، يبقى الدعم الرسمي والشعبي في هذه الدول محدوداً، لأن القليل منهم يعتقد أن المهمة واقعية فعلًا ويمكن تطبيقها في المدى القريب على الأقل، لا سيما فيما يتعلق بمسألة نشر الديمقراطية في وسط آسيا، التي يعتبرها البعض ضرباً من التفكير الرغائبي. أما في الجانب الأميركي، فإن المسؤولين ينتظرون بفارغ الصبر ما ستسفر عنه الحملة العسكرية الحالية. التي تشنها قوات التحالف ضد معاقل "طالبان" في منطقة "مرجة"، وعلى أساسها سيتم تقييم مدى نجاح استراتيجية أوباما ومعه بترايوس وماكريستال. ويبدو أن الظروف ملائمة للتحالف الدولي لتنفيذ برنامجه القائم على كسب العقول والقلوب، لا سيما وأن "طالبان" لا تتمتع بشعبية كبيرة في البلاد، بحيث ستعمل القوات الأجنبية على طرد المتمردين وتسليم المهمة للقوات الأفغانية المشاركة في العملية، كما ستعمل قوات "الناتو" على تكريس تواجد الدولة في المناطق المؤمنة على أن يتم الانتقال إلى مناطق أخرى مضطربة لتعاد العملية نفسها. ومع أن الإدارة الأميركية تعول على المجهود العسكري الأخير في تطهير المناطق من "طالبان" وتسليمها للحكومة الأفغانية، إلا أن التجربة تشير إلى صعوبة النجاح في أفغانستان؛ وفي حال فشل عملية "مرجة"، فإن أوباما سيكون في وضع يسمح له بالوقوف أمام الكونجرس والمطالبة بسحب قواته من أفغانستان بعدما جرب استراتيجية قادته العسكريين، ولم تؤت الثمار المرجوة، وقد سبق له أن تعهد في نفس الخطاب الذي أعلن فيه خطة الزيادة في عدد القوات بالشروع في سحب القوات في أقرب فرصة ممكنة. لكن الأمر لن يكون سهلاً من الناحية السياسية حتى لو قرر أوباما سحب القوات من أفغانستان تماماً مثلما كان سحب الجنود الأميركيين من فيتنام، صعباً على ريتشارد نيكسون ولم يتم له ذلك إلا بعد الاتفاق الذي توصل إليه كيسنجر في هانوي، فهذا الاتفاق الذي صادق عليه الكونجرس رغم إدراكه أنه مجرد مهزلة، الهدف منها حفظ ماء وجه أميركا في حرب خاسرة، لذا قد يكون من الصعب على أوباما إعلان الانسحاب أمام الكونجرس الذي سيرغي ويزبد أعضاؤه ضد الانسحاب، لأنه في نظرهم استسلام أمام الإرهاب. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفسز"