لعل تاريخ أولى محاولات توفير رعاية طبية منظمة داخل مكان أو مبنى محدد -أي مستشفى بالمفهوم الحديث- يعود إلى عصر الفراعنة، حيث كان الكهنة يتولون رعاية وعلاج المرضى داخل المعابد كنتيجة حتمية لارتباط الطب والمعتقدات الدينية ارتباطاً وثيقاً في تلك الأزمنة الغابرة. غير أن ذلك الارتباط المتمثل في استخدام المعابد ودور العبادة لتوفير الرعاية الطبية استمر عبر عدة حضارات متتابعة مثل الحضارة اليونانية، والإمبراطوريات الرومانية والبيزنطية. ومع ظهور الإسلام، وتأسيس الدولة الأموية، شرع الخليفة الوليد بن عبدالملك في بناء أول مستشفى في العالم الإسلامي، في العام السادس والثمانين من الهجرة، الذي وافق بداية القرن الثامن الميلادي. وتم بناء وتنظيم هذا المستشفى، بشكل مماثل ومطابق إلى حد كبير، لنظام "البيمارستان" المتبع سابقاً في إمبراطورية الفرس، الذي خرج بالرعاية الطبية إلى خارج أسوار المعابد، واعتمد في تقديم هذه الرعاية على أشخاص متفرغين ومدربين على الجوانب الطبية المختلفة، بدلا من الاعتماد السابق على الكهنة وأعوانهم فحسب. ومنذ ذلك الزمن أصبحت المستشفيات تشكل العصب الرئيسي، والعمود الفقري، في أي نظام متخصص في الرعاية الصحية، وهو ما يتضح من حقيقة وجود مئات الآلاف من المستشفيات حالياً، وفي جميع بقاع العالم، دون استثناء تقريباً. ولكن على رغم نجاح هذا النموذج في تقديم الرعاية الصحية، ودعمه بأحدث المعدات والأجهزة المتخصصة، وبأعداد وفيرة من أفراد الطاقم الطبي بمجالاتهم المختلفة، إلا أن المستشفيات كنموذج للعلاج وتوفير الرعاية الطبية تعرضت أيضاً عبر السنين لانتقادات حادة. وقد ظهر بعض هذه الانتقادات بسبب عيوب وقصور في أساسيات الفكرة، والبعض الآخر من أسلوب تطبيقها، والممارسات التي تجرى فيها. وأحد الانتقادات التي وجهت لهندسة النموذج من أساسه يتعلق بكون المستشفيات تعتمد على عدد كبير من العاملين، يقومون بعلاج عدد كبير من المرضى، في ظل سياسة تدفع نحو الكفاءة والإنتاجية بشكل مماثل للكفاءة والإنتاجية الصناعية، مما يفقد المرضى العلاقة الإنسانية بمن يقومون برعايتهم، ويمنع أفراد الطاقم الطبي من تصميم وتنفيذ علاج شخصي للمريض، يأخذ في الاعتبار ظروفه الاجتماعية والاقتصادية، وليس فقط حالته الطبية. ففي ظل جو العمل الحالي داخل المستشفيات، الذي يتميز بتوتر وضغوط نفسية وعملية رهيبة على أفراد الطاقم الطبي، تحول المريض إلى رقم وحالة، وفقد جزءاً كبيراً من تميزه وإنسانيته. وهذا الوضع أدى أيضاً إلى تزايد عدد الأخطاء الطبية وتكرارها، في ظل جو عمل شبيه بجو عمل مصانع تجميع السيارات. وأما الانتقاد الآخر الذي يوجه للمستشفيات فيتعلق بكونها مكاناً خطراً بطبيعته، ويسهل فيه انتقال العدوى من مريض إلى آخر، ضمن ما يعرف طبياً بعدوى المستشفيات. وهذا المصطلح أو التشخيص الطبي، يطلق عادة في حالة المرضى الذين حجزوا لسبب أو آخر في مستشفى، وظهرت عليهم أعراض عدوى ميكروبية، بعد 48 ساعة من دخولهم المستشفى، ولفترة الثلاثين يوماً التالية لخروجهم منه. ولبيان خطورة هذه المشكلة، يكفي أن نسترجع بعض الإحصائيات الصادرة من دول مختلفة، عن عدد حالات عدوى المستشفيات فيها، وحجم الوفيات الناتجة عنها. ففي الولايات المتحدة مثلا، يقدر أن واحداً من كل عشرة أشخاص تم حجزهم في مستشفى، يتعرض لهذا النوع من العدوى، وهو ما يعادل مليونيْ مريض سنوياً في الولايات المتحدة وحدها. ويكلف علاج هذه الحالات ما بين خمسة إلى أحد عشر مليار دولار سنوياً. وينتج عنها 88 ألف وفاة سنوياً، حسب إحصائيات عام 1995. ولا يختلف الوضع كثيراً في بقية دول العالم، حيث تبلغ نسبة تعرض مرضى المستشفيات للعدوى في فرنسا حوالي 5.4 في المئة، و 6.7 في المئة في إيطاليا، و 7.2 في المئة في سويسرا، و 8.2 في المئة في إنجلترا، و 8.5 في المئة في فنلندا. وصدور هذه الإحصائيات عن تلك الدول لا يعني أنها الوحيدة التي تقع في مستشفياتها العدوى. بل يمكن القول، وبدرجة عالية من الثقة، إن جميع دول العالم، وجميع المستشفيات الموجودة في هذه الدول، تقع فيها عدوى للمرضى داخل المستشفى. والفرق الأساسي بين دولة وأخرى هو أن البعض يعترف بوجود المشكلة، بينما يفضل بعض آخر إنكار وجودها بالمرة داخل مؤسساته الاستشفائية. ويعزى انتشار عدوى المستشفيات على هذا النطاق الواسع إلى عدة عوامل خطر تقترن بفكرة علاج عدد كبير من المرضى في مكان واحد. ويمكن أيضاً التفصيل أكثر في هذه العوامل. أولا: إن من يحجزون في المستشفيات يكونون غالباً في حالة صحية سيئة، وهو ما يؤثر في الأساس على فعالية جهاز المناعة لديهم، وعلى قدرتهم على مقاومة العدوى داخل أو خارج المستشفى. ثانياً: كثيراً ما يخضع من هم في المستشفيات لإجراءات علاجية جراحية، مثل الحقن، والقسطرة، وأنابيب التنفس، والعمليات الجراحية، وهي كلها إجراءات تخترق دفاعات الجسم الطبيعية، وتجعل المريض عرضة للإصابة، سواء كان جهاز المناعة لديه نشطاً أم مثبطاً. ثالثاً: يتركز في المستشفيات عدد كبير من المصابين بأمراض معدية مقارنة بتركيزهم العام داخل المجتمع مثلا، مما يجعل من المنطقي والأسهل انتقال العدوى إلى الأشخاص الأصحاء. وإن كان تواجد هذه العوامل لا يعني بأي شكل أن التعرض للعدوى داخل المستشفى هو قدر محتوم، حيث يمكن للعديد من الإجراءات والتدابير، إن اتبعت بشكل سليم ومستمر من قبل أفراد الطاقم الطبي، أن تقلل من احتمالات العدوى بشكل هائل. ولهذا السبب، يمكن القول إن عدوى المستشفيات مع أنها خطر معروف وموثق منذ زمن بعيد، إلا أنها خطر يمكن تجنبه والوقاية منه في الغالبية العظمى من الحالات.