العالم كله شرقه وغربه شماله وجنوبه، مشغول بالمستقبل، ونحن في المجتمع العربي المعاصر قابعون في كهف الماضي وتخايلنا أشباحه، وبعضنا من ذوي العقليات الرجعية يحاول إقناعنا بأن الماضي بكل ما دار فيه يصلح لكي يكون مرجعيتنا في الحاضر وبوصلتنا للمستقبل! لقد عالجنا من قبل موضوع تحديات النهضة الثقافية العربية، وأبرزها عدة سلبيات، أهمها على الإطلاق هيمنة النص الديني وخصوصاً تأويلاته غير الصحيحة وتأثيراته على قيم واتجاهات جماهير المسلمين قروناً طويلة، وتهافت الخطاب العربي بحكم الخلط الواضح بين المستويات المعرفية البرهانية والبيانية والعرفانية، مما يفقده التماسك ويحرمه من الإقناع. وإذا أضفنا إلى ذلك سيادة القيم الأبوية في المجتمع العربي من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية، مما يكرس قيم الخوف والخضوع، أدركنا أن أزمة المجتمع العربي بالغة العمق حقاً. غير أن هناك بعداً آخر فاتنا أن نشير إليه في هذا السياق. وهو ما بدأنا به المقال ويتمثل أساساً في الاستنجاد بخبرات الماضي لحل مشاكل الحاضر، في حين أن آفاق المستقبل لا يتم استطلاعها بالشكل المنهجي الذي ترسم به المجتمعات المتقدمة خرائط مستقبلها. ويمكن القول إنه نشأ في المجتمع الغربي منذ عدة عقود مبحث علمي جديد هو علم المستقبل Futurology، الذي يُعنى بتطبيق مناهج وأساليب بحثية شتى لاستشراف المستقبل من الزوايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد نشرت حول المستقبل كتب بالغة الأهمية وتقارير عالمية شهيرة. ومن أبرز هذه الكتب على الإطلاق كتاب "توفلر" المعنون "صدمة المستقبل" الذي ترجم إلى عشرات اللغات الحية، وأصبح المرجع الذي استطاع تحفيز الرأي العام العالمي للاهتمام بالمستقبل. وأتبعه بنشر كتاب "الموجة الثالثة"، الذي تحدث فيه باستفاضة عن التحول من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي، وأخيراً نشر كتابه "تحولات السلطة"، الذي هو إبداع خالص في رسم خريطة المجتمع العالمي الراهن، بكل ما تزخر به من تضاريس متنوعة. أما التقارير الدولية التي ذاع صيتها في العالم فأبرزها كان التقرير الذي أصدره "نادي روما"، وهو مركز بحثي عالمي، وعنوانه "حدود النمو"، وقد تضمن رؤية تشاؤمية عن مستقبل العالم، على أساس أن نضوب موارده سيؤدي إلى كارثة إنسانية لا حدود لها. غير أن تقريراً آخر صدر عن مجموعة من المفكرين اليساريين في أميركا اللاتينية نشر بعنوان "نموذج باروليتشي"، وقد تضمن نقداً عنيفاً لتقرير "نادي روما" لأن استشرافه للمستقبل قام على أساس بقاء النظام الرأسمالي بما يتضمنه من توزيع ظالم للإنتاج على مستوى العالم إلى الأبد، مع أنه لو تغير هذا النظام الذي اعتدى بوحشية على الموارد الطبيعية للعالم، جرياً وراء التراكم الرأسمالي وجني الأرباح الفاحشة، لتغير الوضع واعتدل الميزان الكوني -إن صح التعبير- وما شهدنا خطورة الاحتباس الحراري التي تهدد الكون في الوقت الراهن. غير أن الدراسات المستقبلية في العالم تمر بأزمة حقيقية. وهذه الأزمة ترد إلى سببين رئيسيين: الأول هو التغيرات الجسيمة في الوضع العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وكتلة الدول الاشتراكية ونهاية عصر الحرب الباردة، وزوال نظام الثنائية القطبية الذي هيمن على مجمل القرن العشرين من ناحية، والثاني هو اللحظة التاريخية التي تمر بها العلوم الاجتماعية الغربية والتي تتسم بسقوط النظريات القديمة والصراع حول تأسيس نظريات جديدة، من ناحية ثانية. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه: ما العلاقة بين انهيار النظام العالمي القديم وأزمة الدراسات المستقبلية؟ لقد أجبنا على هذا السؤال من قبل في كتابنا "الزمن العربي والمستقبل العالمي" الصادر عن دار المستقبل العربي عام 1998. وكانت خلاصة رأينا أن هناك علاقة وثيقة في الواقع. وبيان ذلك أن النظام العالمي القديم الذي سيطر على مناخه السياسي والفكري الصراع الحاد والعنيف بين الرأسمالية والماركسية، كان يتسم بالثبات النسبي. ذلك أنه بالإضافة إلى العالم الأول ممثلاً في الولايات المتحدة الأميركية وباقي الدول الغربية الرأسمالية المتقدمة، كان هناك أيضاً العالم الثاني ممثلاً في الاتحاد السوفييتي وغيره من البلاد الاشتراكية. وبالإضافة إلى ذلك كان هناك العالم الثالث، ونعني عالم الأطراف الذي يزخر ببلاد تنتمي إلى ثقافات متباينة، وتطبق فيها نظم سياسية متعددة، وإن كانت تجمعها سمة واحدة، هي تدني المستوى الاقتصادي، وقصور البنية التكنولوجية، وضعف الإنتاج وانخفاض مستواه. إن المعركة بين هذه العوالم الثلاثة كانت محتدمة. العالم الأول يتصدر سباق المنافسة العالمية، من خلال حملة دعائية صارخة تدور حول أفضلية الرأسمالية كاختيار اقتصادي يقود حركة البشر، والليبرالية باعتبارها أرقى نظام سياسي يحقق الحرية الإنسانية. والعالم الثاني الذي يشن حرباً إيديولوجية ضد العالم الأول على أساس أن الماركسية هي وليس غيرها، الإيديولوجية التي ستبنى على أساسها المجتمعات الاشتراكية، تمهيداً للوصول إلى المجتمعات الشيوعية، ويبقى بعد ذلك العالم الثالث الذي توزعت ميوله واتجاهاته بين العالم الأول والعالم الثاني، بالإضافة إلى أنه كان -في كثير من الأحيان- يمثل ساحة الصراع الأساسية العسكرية والسياسية والاقتصادية بين العالم الأول والعالم الثاني. في ظل هذه الخريطة العالمية بثوابتها وسماتها الراسخة، كانت تدور الدراسات المستقبلية في الغرب والشرق، في ظل مناخ يتسم في الواقع بالثبات النسبي، وهذا الثبات النسبي كان يتبلور حول الصراع بكل تجلياته العسكرية والسياسية والاقتصادية بين الولايات المتحدة الأميركية زعيمة ما أطلق عليه "العالم الحر"، والاتحاد السوفييتي زعيم البلاد الاشتراكية وبلاد العالم الثالث التي تدور في فلكه. غير أن زوال الثبات النسبي، والتغيرات الكبرى التي حدثت في العالم وخصوصاً الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي جعل العالم يعيش في وضع يتسم بعدم الاستقرار وعدم القابلية للتنبؤ. غير أن مراكز الأبحاث العالمية تجاوزت هذا الوضع الآن وأصبحت في حالة تسمح لها باستشراف مستقبل العالم في العقدين القادمين بحيث أصبحنا قادرين علمياً على الحديث عن حالة المستقبل!