تبدو إسرائيل قلقة من ازدياد معدلات الانفتاح الأميركي على سوريا رغم أنها كانت قد ساهمت فعليا، عبر المفاوضات غير المباشرة مع دمشق، في كسر العزلة التي حاولت إدارة بوش فرضها عليها. وليست هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها تباين بين السياستين الإسرائيلية والأميركية في الشرق الأوسط عموما، وتجاه سوريا خصوصاً. ويمكن اعتبار التباين الراهن امتداداً لخلاف صغير بدأ في نهاية عام 2007 عندما أدرك بوش ضرورة التحرك على صعيد قضية فلسطين في محاولة لتعويض الفشل الذي منيت به سياسته في المنطقة. كان رئيس وزراء إسرائيل حينئذ أولمرت متحفظاً بشأن مفاوضات تنطوي على قضايا شديدة الحساسية بالنسبة لبعض حلفائه في الائتلاف الحكومي السابق، فاقترح على بوش تحريك المسار التفاوضي السوري وليس الفلسطيني. لكن إدارة بوش استخدمت بعض نفوذها وأقنعت أولمرت بعقد مؤتمر "أنابوليس" الذي أُعلن فيه إجراء مفاوضات بين حكومته والسلطة الفلسطينية. غير أنه ما أن بدأت هذه المفاوضات حتى كان أولمرت قد رد بالإيجاب على اقتراح تركي لإجراء مفاوضات غير مباشرة مع سوريا. وربما لم يتوقع أولمرت، في ذلك الوقت، أن انتهاء التهدئة مع حركة "حماس" سيفتح الطريق نحو حرب شنتها حكومته على قطاع غزة وأدت إلى انهيار المفاوضات غير المباشرة مع سوريا بعيد وقف نظيرتها المباشرة مع الفلسطينيين. لكن الأهم من ذلك هو أن أحداً في إسرائيل لم يتوقع أن يكون للتفاوض غير المباشر مع سوريا أثره في فتح الباب بعد أشهر قليلة أمام التواصل بين واشنطن ودمشق. وكان تزامن إعلان تعيين الدبلوماسي المخضرم روبرت فورد سفيراً للولايات المتحدة لدى سوريا مع وصول مساعد وزيرة الخارجية وليام بيرنز إلى دمشق في 17 فبراير الجاري، تعبيراً عن اتجاه واشنطن إلى تعزيز هذا التواصل. ورغم أن مساحة التباين الإسرائيلي -الأميركي حول سوريا ليست كبيرة، حتى مقارنة بالخلاف بين إدارة أوباما ومعارضيها من "المحافظين الجدد" الذين انتقدوا ما أسموه "نهج الانخراط المتهور وغير المشروط حيال سوريا"، فثمة قلق لدى المؤسسة السياسية -الأمنية في الدولة العبرية مما يمكن أن يترتب على اختلاف الأولويات بشأن ما تريده كل من الدولتين من سوريا في اللحظة الراهنة. فالأولوية القصوى بالنسبة لواشنطن تتعلق بدور سوريا في العراق، فيما تحظى علاقة دمشق مع طهران بأسبقية في قائمة الأولويات الإسرائيلية. وتتطلع إدارة أوباما في المقام الأول إلى مساعدة سوريا في استقرار الوضع في العراق، عبر تأمين حدودها معه، حتى يمكن إتمام الانسحاب الأميركي في موعده. ورغم وجود تداخل بين المسألتين العراقية والإيرانية، يظل لتباين الأولويات الأميركية والإسرائيلية مغزاه الذي يثير بعض القلق في تل أبيب. فقد يكون بإمكان سوريا أن تضمن اطراد التحسن في علاقاتها مع واشنطن إذا قدمت لها مساعدة مقنعة في العراق. وفي هذه الحال، قد تستطيع دمشق المحافظة على علاقاتها مع طهران عند مستوى قريب مما بلغته في السنوات الأخيرة، رغم أن واشنطن تتطلع إلى مسافة أبعد بينهما. وربما يكون هذا هو ما تحسب إسرائيل حسابه، وهي التي تعتبر إبعاد سوريا عن طهران شرطاً لا بديل عنه لإضعاف قدرة "حزب الله" على زيادة تسليحه. ويعني ذلك أن التباين الأميركي -الإسرائيلي يتعلق، في أحد أهم أبعاده، بدور سوريا في كل من العراق ولبنان. فلم يعد ملف لبنان هو البند الأول فيما تطلبه أميركا من سوريا الآن، بخلاف ما كانت عليه الحال في 2004 -2005 عندما كان هذا الملف وعلاقة دمشق مع حركات تعتبرها واشنطن "إرهابية"، في صدارة المطالب التي سعت إلى إلزام السوريين بها. وإذ جزم رئيس وزراء إسرائيل أكثر من مرة في الأسابيع الأخيرة بمسؤولية سوريا عن تضخم ترسانة "حزب الله" الصاروخية، فهو يعبر ضمناً عن قلق من تباين أولويات كل من بلاده والولايات المتحدة بشأن المطلوب من دمشق حالياً. كما ينعكس هذا القلق في التصعيد السياسي الذي يلجأ إليه مسؤولون إسرائيليون ضد دمشق من وقت لآخر، وخصوصاً وزير الخارجية رغم الخلاف الداخلي الذي أثارته لهجته العنيفة عندما هدد الأسد في 4 فبراير الجاري بأنه لن يخسر الحرب القادمة فقط وإنما سيخسر سلطته أيضا. ورغم أن الرد السوري على هذا التهديد كان أقل حدة، فربما ساهم في زيادة القلق الإسرائيلي عندما حذر المعلم من أنه إذا دفعت تل أبيب باتجاه الحرب فإنها ستكون شاملة. ومرد القلق هنا إلى أن قوة العلاقة السورية الإيرانية، وعدم تأثرها حتى الآن بالتواصل الأميركي مع دمشق، ربما يقيد حركة إسرائيل في مواجهة طهران التي تعتبرها مصدر الخطر الرئيسي الذي ينبغي أن يحظى بأولوية مطلقة في استراتيجية واشنطن وبالتالي في علاقاتها الجديدة مع سوريا. لذلك لا يخلو من صواب الرأي القائل إن التصعيد السياسي الإسرائيلي ضد سوريا هو أساساً بمثابة رسالة ضمنية إلى واشنطن. فليس هناك ارتباط ملموس بين هذا التصعيد والوضع على الأرض. فلا استعداد عسكري هناك ولا نذر حرب سواء على سوريا أو على لبنان. وإذا كانت في الأفق حرب إسرائيلية جديدة، فهي على إيران. وقد يكون أكثر ما يقلق الإسرائيليين هو موقف سوريا التي تستطيع التحكم في نطاق هذه الحرب -حتى بدون أن تنخرط فيها مباشرة- من خلال علاقاتها بكل من "حزب الله" وحركة "حماس". فلا يخفى أن إيران تراهن على إشعال جبهتي إسرائيل الجنوبية والشمالية في حال تعرضها لهجوم عسكري. غير أن تحكم سوريا في تسليح "حزب الله" عبر حدودها مع لبنان، ونفوذها على قيادة "حماس"، يمكن أن يؤثرا في مدى فاعلية دور الأولى وفي قرار الثانية حال قيام إسرائيل بمهاجمة إيران. الأميركي الجديد إلى دمشق هو: هل يتواصل هذا التحسن في العلاقات، رغم القلق الذي يثيره في إسرائيل؟ وربما تتوقف إجابة هذا السؤال على عاملين ليس من بينهما تأثير إسرائيلي مباشر على السياسة الأميركية، وهما مدى استعداد سوريا لتقديم مساعدة مقنعة للولايات المتحدة في العراق، ونجاحها في ذلك، وتطور أزمة البرنامج النووي الإيراني في الأشهر المقبلة.