من المتفق عليه أن المتشدد نتنياهو، لا يريد السلام مع الفلسطينيين ولا حتى مع السوريين، أو على الأقل، لا يريد ذلك النوع من السلام الذي يشمل إعادة الأراضي لأصحابها، لأن التحالف اليميني الذي يقوده لن يسمح بذلك... لكن هل يعني هذا أنه يريد الحرب؟ هذا أيضا أمر مشكوك فيه. فنتنياهو يتقدم على جميع الساسة الإسرائيليين في استطلاعات الرأي، والتحالف الذي يقوده ينعم بالاستقرار، بينما تعاني المعارضة من التشرذم، ويكاد "معسكر السلام" يكون غير موجود، ولا تواجه إسرائيل تهديدا من جيرانها، بينما يمر فيه اقتصادها المتطور تكنولوجيا بفترة من الرخاء الكبير. هذه كلها لا تمثل ظروفا تشجع على استدعاء أعداد كبيرة من ضباط وجنود الاحتياط الإسرائيليين، المشغولين بجمع الأموال في حياتهم المدنية، وينعمون بالاستلقاء على الشواطئ هربا من موجة الحر السائدة حالياً في إسرائيل، لشن حرب يريدها اليمين. إذن، طالما كان نتنياهو لا يريد حربا، وطالما كانت دوافع تلك الحرب غير مغرية -الآن على الأقل- بالنسبة لأغلبية الشعب الإسرائيلي، فالاستنتاج الواضح هو أن نتنياهو سعيد ببقاء "الأمر الواقع" على ما هو عليه. لكن الأمور نادرا ما تبقى على حالها طويلا في السياسة، وهو ما يتطلب من القادة السياسيين أن يكونوا مستعدين دائما للتعامل مع أحداث غير متوقعة. هنا يتبادر إلى الذهن سؤال آخر: ما الذي يمكن للمرء أن يخمنه من خلال معرفة اهتمامات نتنياهو، والأشياء التي تهيمن على تفكيره مثل كراهيته العميقة لحركة "حماس" في غزة و"حزب الله" في لبنان، وهما منظمتان تتحديان إسرائيل؟ لاستباق أي مفاوضات سلام جادة مع الفلسطينيين، يبدو نتنياهو مهتما بإحباط أي مصالحة بين "حماس" و"فتح"، لأن ذلك يضعه وجها لوجه أمام آخر شيء يريده وهو جبهة فلسطينية موحدة. ولعل هذا تحديدا ما جعله يرفض خلال كافة اللقاءات الإسرائيلية مع الوسطاء حول الجندي الإسرائيلي الأسير، إطلاق سراح مراون البرغوثي، القائد الكاريزمي الذي يرى كثيرون أنه الوحيد تقريبا القادر على توحيد الفصائل الفلسطينية. ولعل ذلك أيضاً يفسر سبب الكشف مؤخرا عن ست فضائح ووقائع فساد بين مساعدي عباس المقربين، والتي يبدو أنها من تدبير جهاز الأمن الإسرائيلي. وقد جاء اغتيال "المبحوح"، القيادي في حركة "حماس"، ليمثل حدثا آخر أكثر إثارة، هدفه خلق حالة من الفوضى في صفوف الفلسطينيين. وبعد تعهدها بالانتقام لمقتل المبحوح، يتوقع أن تصبح "حماس" أقل ميلا لتقديم دعمها لاستراتيجية عباس القائمة على المفاوضات. علاوة على ذلك، يأتي تورط متعاونين فلسطينيين في قتل المبحوح ليساهم في مزيد من التوتر الفلسطيني الداخلي. على أي حال، كان نتنياهو قد تعهد من قبل بعدم رفع الحصار على غزة طالما ظلت "حماس" موجودة هناك، علاوة على أن معظم الإسرائيليين يبدون غير مبالين تماما بالمعاناة التي ينزلونها بالشعب الفلسطيني المحاصر. وقد ازدادت حدة الحصار مع إقامة جدار فولاذي على طول الحدود المصرية مع قطاع غزة، وهو ما يهدد التجارة التي كانت تتم عبر الأنفاق، والتي ساعدت في بقاء سكان القطاع على قيد الحياة. وبالنسبة لطريقة نتنياهو في التفكير، فإن كل ذلك كفيل باحتواء التهديد الذي تمثله "حماس". "حزب الله"، من جهته، يمثل مشكلة أكثر صعوبة. فهذه الحركة الشيعية اللبنانية لا تقف لوحدها، حيث تعتبر جزءاً من محور إقليمي مثّل خلال السنوات الأخيرة تحدياً رئيسياً للهيمنة الأميركية -الإسرائيلية على المنطقة. ووفقا لما نشر في مطبوعة "تي تي ئي موند آراب" الأسبوعية الصادرة في باريس، والمتخصصة في الشؤون الاستراتيجية للعالم العربي، فهناك عدد كبير من صواريخ "فاتح "110" الإيرانية والتي يتراوح مداها بين 200 و250 كيلو مترا قد عبرت سوريا في طريقها إلى "حزب الله"، حيث تم نشرها في مواقع بوادي البقاع. ولتفكيك هذا المحور، كرس نتنياهو جل اهتمامه لاستقطاب العالم وحشده ضد إيران من خلال تصوير برنامجها النووي على أنه يمثل تهديداً "وجودياً" لإسرائيل. ويمكن القول إنه نجح في ذلك نجاحا كبيرا، وهو ما يمكن تبين بعض دلائله من خلال ملاحظة أن أوباما أوقف محاولاته التواصل مع إيران ومد يد الصداقة لها، وقام بدلا من ذلك بقيادة الجهد الرامي لفرض عقوبات دولية أكثر صرامة عليها. سوريا أيضا في مرمى النظر الإسرائيلي. فهناك حاليا تيار رأي -يكتسب أرضا في الدوائر الدفاعية والاستخباراتية الإسرائيلية- يحبذ إعادة إطلاق عملية السلام مع دمشق، والحجة التي يقوم عليها تتلخص فيما يلي: إذا ما أمكن تحييد سوريا من خلال اتفاقية سلام، فذلك سيؤدي حتما إلى إضعاف محور طهران -دمشق -"حزب الله" وعزل إيران، وتقويض "حزب الله". أما الفلسطينيون فبعد حرمانهم من نصيرهم السوري، سيجدون أنفسهم مضطرين للقبول بأي فتات يلقى إليهم. ويرى بعض الخبراء أن إعادة هضبة الجولان لسوريا ستكون ثمنا معقولا تدفعه إسرائيل مقابل تحقيق هذه المكاسب الاستراتيجية. وهناك عدد من العيوب في هذا النمط من التفكير؛ منها أن نتنياهو ليس على استعداد للتخلي عن هضبة الجولان، وأن سوريا قد لا توافق على إجراء سلام منفرد. فبقدر تلهفها لاستعادة الجولان فهي لا ترى أن ذلك يمثل سبباً كافيا لإقناعها بالتخلي عن حلفائها الإيرانيين واللبنانيين والفلسطينيين، ورهن المنطقة لهيمنة إسرائيلية قد تمتد لأجل غير محدد. إن "الوضع القائم" الحالي، ورغم أنه يوافق هوى نتنياهو، قد يثبُت أنه وضع غير مستقر ولا يحمل صفة الدوام كما يأمل نتنياهو!