طالما راود الفلاسفة والمفكرين والعلماء والسياسيين والقادة بل والأديان أيضاً مفهوم "النموذج" بمعانيه وألفاظه المتعددة، القدوة، الأسوة، المثل الأعلى، الأنموذج Paradigm، المثال، النمط المثالي، البنية، المعيار، المخلص، البطل الشعبي وابن البلد. وقد تتعدد النماذج في العلم والفكر والسياسة وتتجاوزها إلى الحياة العامة، لا فرق بين العلماء والجمهور. ويبدو أن النموذج يقوم بدور المعيار أو المقياس في العلم وفي السلوك، في النظر وفي العمل. فلا يوجد فكر أو سلوك إلا إذا احتاج إلى معيار أو نموذج أو هادي سبيل. كما أنه القدوة أو الأسوة في السلوك. وظيفة النموذج توحيد الفكر، وتجميع الطاقة، واختصار الوقت من أجل التحول من النظر إلى العمل، ومن الذات إلى العالم، ومن الفكر إلى الوجود. وهو ما سمي "الهدى" أي اتباع النموذج الإرشادي، والمؤشر والدليل في عالم مملوء بالعلامات. وقد ورد اللفظ في القرآن الكريم في عدة صور: أ- "المثل الأعلى". وهو النموذج العام الذي خلقه الله في السموات والأرض (وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) والذي عليه تقاس المخلوقات فتأتي على قدر موزون. ب- الطريقة المثلى. وهي الطريقة النموذجية في السلوك (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) التي هي مدار إرادة الإنسان في التمسك بها أو في ضياعها. جـ- المثل. وهو المثل الجزئي الحسي للدلالة على النموذج العام فالله يضرب الأمثال للناس للتفهيم والإقناع (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) ومثلها (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). وعادة ما تكون الأمثال من الطبيعة والناس ومن حقائق المجتمع والتاريخ للعظة والعِبرة. وكذلك ورد لفظ "أسوة" بمعنى قدوة مثل الرسول، صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، وإبراهيم (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)، والأنبياء جميعاً (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ).فأصحاب الرسالات قدوة للبشر جمعاً بين العلم والعمل. ولم يرد لفظ "قدوة" كاسم إنما ورد كفعل الاقتداء بالرسل (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ). فالقدوة اقتداء، خشية من تشخيص القدوة ونسيان الاقتداء. وطالما راود الصوفية أيضاً مفهوم "الإنسان الكامل" عند ابن عربي وعبدالكريم الجبلي. وهو النموذج الحق للخير العدل. هو نموذج العلم والقدرة والحياة. فالحياة نظر وعمل. والسمع والبصر والكلام والإرادة لأن العلم علم بشيء عن طريق الحواس وتعبير عن مضمونه بالكلام، وصياغته للحق بعيداً عن الأهواء. وفي المسيحية أيضاً "السيد المسيح" نموذج وقدوة كما ظهر في كتابات القديسين وآباء الكنيسة. على المؤمنين تقليده، وكما ورد في بعض الكتابات المجهولة المؤلف. ولا يعني اتباع القدوة التقليد (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ). فالنموذج إلى أعلى أو إلى الأمام وليس إلى الخلف كما هو الحال في الطليعة والطلائع أو النخبة أو الرواد، هؤلاء الذين يجسدون النموذج النظري بالسلوك العملي. لذلك جعل القدماء من شروط الإفتاء اتفاق عمل المفتي مع قوله وإلا سقط الإفتاء. فالنموذج أول ما يُطبق بُطبق على الذات (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ). ويستعمل النموذج في العلوم الرياضية فيما يسمى بـ "النمذجة" Modeling أي نظم الواقع كله طبقاً لنماذج رياضية معدة سلفاً. فالعقل والواقع من نظام واحد. والنموذج الرياضي له صدقه في باطنه. إذ يقوم على مجموعة من المصادرات أو البديهيات أو الأوليات أو المبادئ الأولى الصحيحة في ذاتها والتي تحمل برهانها في داخلها. ثم يتم استنباط نسق منها مقياس الصدق فيه اتفاق النتائج مع المقدمات. لذلك كانت العلوم الرياضية نموذجاً لليقين المطلق قبل الرياضيات الحديثة، تتخذها العلوم الطبيعية التجريبية نموذجاً لها. وعيب ذلك هو تحويل الواقع إلى أعداد وشتان ما بين حركة الواقع وثبات الأعداد. الواقع مادي حي متحرك وحر يغفل وجود الإرادة الإنسانية فيه ولا يمكن التنبؤ بمساره. في حين أن النموذج الرياضي صوري ميت ثابت وحتمي لأنه خارج الأفعال الإنسانية الفردية والجماعية وليس به مسار يمكن التنبؤ به. النموذج نظام عقلي والواقع له نظامه الخاص بما في ذلك اللانظام. الواقع أكثر غنى من النموذج. لذلك سرعان ما تنهار النماذج حين يتجاوزها النظام وتعجز عن احتوائه والسيطرة عليه. النموذج في هذه الحالة وسيلة عملية لتحويل الواقع إلى كم يسهل التعامل معه في الاقتصاد من أجل الاستيراد والتصدير بصرف النظر عن التقلبات الاجتماعية والتحركات السياسية. النموذج يتعلق بنتاج العامل وليس بالعامل نفسه. ويستعمل أيضاً في العلوم الطبيعية التي تقوم على المنهج التجريبي، ونموذجه وضع الفروض من الملاحظات المبدئية ثم تحقيق هذه الفروض في الواقع. فما يتحقق منها يتحول إلى قانون علمي. ومقياس صحة النتائج مطابقتها مع الواقع التجريبي. ويعتمد هذا النموذج على رغم طابعه التجريبي على عدة مبادئ لا تجريبية مثل إطراد قوانين الطبيعة، والاكتفاء بالاستقراء الناقص لاستحالة التجريب على كل الجزئيات. وهو ما سماه محمد باقر الصدر "الأسس المنطقية للاستقراء"، وما سماه الشاطبي "الاستقراء المعنوي" في "الموافقات". وقد عبر عن ذلك "توماس كون" في كتابه الشهير "بنية الثورات العلمية" حيث يتم التقدم في العلوم الطبيعية طبقاً لتوالي النماذج الإرشادية التي لا تتعارض فيما بينها بل تتداخل كدوائر مختلفة الاتساع تشارك في مركز واحد ولكنها تختلف في مدى تطبيقها. فنموذج إسحاق نيوتن للعلم ينطبق على العلم التقليدي، الأسباب والمسببات. ونموذج أينشتاين لا يتعارض مع نموذج نيوتن إلا في أنه يفسر دائرة أوسع من الظواهر الطبيعية. ويستعمل أيضاً "النموذج" في العلوم الإنسانية، الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وفي العلوم الاجتماعية، الاجتماع والسياسة والاقتصاد. ففي الفلسفة طالما راود الفلاسفة مثل أفلاطون وضع "مثال" واحد مجرد صوري عقلي خالد لكل الوقائع الجزئية المحسوسة المادية المتعددة. فالإنسان مثال للبشر جميعاً. والقيم الأخلاقية والمعايير الخلقية مطلقة لا يحدها زمان أو مكان وعلى ما هو معروف في نظرية المثل Ideas عند أفلاطون. وهي إغراء إنساني عام طالما ثار الواقعيون والتجريبيون والماديون والوضعيون ضدها. إنها أقرب إلى التمنيات والرغبات الدفينة، والتطلع إلى الثابت والدائم والأبدي تجاوزاً لهذا الواقع المادي الزائل بموت الإنسان. إنها محاولة لتجاوز الفناء إلى الخلود. وهو الدافع الذي قام عليه الدين والفن، يعطي عزاء للإنسان بأن الموت ليس هو النهاية، وأن الزوال ليس خاتمة المطاف. وقد يوجد النموذج في الحياة اليومية، النموذج الحي في القدوة: الأب أو الأخ أو الأم أو الزوجة أو الصديق أو الزعيم. وهو ما يتوافر في قاموس العرب السياسي كألقاب لبعض الرؤساء. وفي الثقافة الشعبية هناك البطل الشعبي وابن البلد و"الفتوّة" وربما الصعلوك. ولذلك تتناقل الأجيال سير الأبطال و"الفتوات" في السير الشعبية مثل "السيرة الهلالية" وغيرها. هو ما ينبغي أن يكون عليه المواطن وما يتوق إليه، ما يتمناه لولا الظروف المحدِّدة المانعة. وهو النموذج الذي عليه يقوم المخلص. والسؤال هو: أين النموذج؟ هل في الذهن المجرد كالنماذج الرياضية أم في الواقع الخارجي، في الطبيعة والتاريخ كالنماذج الطبيعية وقوانين التاريخ أم في النفس البشرية تكتشفها في التجارب الحية أم في الخارج وفي الداخل على السواء؟(وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِيَن، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)،(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ). وقد يكون في "اللوح المحفوظ" (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) دوّن فيه كل شيء (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا). فالحقائق عامة وواحدة موضوعة مسبقاً وليست فقط مستقرة من الواقع والتاريخ. هي الكليات العامة السابقة على الجزئيات والحاصرة لها. وهي مدونة محفوظة. وقد يكون في العلم الإلهي الذي ضم كل نماذج الخلق ويحيط بكل شيء في السموات والأرض ( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً). فالله خلق العالم طبقاً للنماذج. لذلك جعل الفلاسفة العلم الإلهي علماً كلياً، علماً بالأجناس والأنواع وليس بالفصول والأعراض كما يقول المناطقة. وقد يكون في كل الآفاق الممكنة، في النفس وفي العالم، في العقل وفي التاريخ، في الداخل وفي الخارج، نموذجاً للتوحيد بين هذه العوالم كما قال "إخوان الصفا" بالتماهي بين العالم الأصغر Microcosm والعالم الأكبر Macrocosm. النموذج في النهاية وظيفة معرفية وسلوكية، تساعد على الفهم والفعل. يهدي إلى الحق ويرشد إلى الطريق حتى لا يقع الإنسان في الشك والنسبية واللاأدرية في النظر والتردد والتشتت والتضارب في العمل. النموذج هو موحد الطاقات النظرية والعملية. وهي الوظيفة نفسها التي يؤديها الإيمان في الشعور.