الكبير في حياته، كبير كذلك في مماته. والكبير في حضوره، كبير أيضا في غيابه. هذا هو الحال مع صعود روح "حسيب صباغ" (أبو سهيل) إلى باريها. فرحيل رجل، من قامة حسيب صباغ، حدث له وقع كبير ليس فقط على محبيه، وإنما أيضا على صعيد القضية الفلسطينية. وضمن أمور عديدة لم تخطر على بالي في علاقتي الطويلة والقريبة مع "أبو سهيل"، فمن المؤكد أنه لم يخطر على بالي أنني سأحظى بذلك "الشرف المؤلم" الذي تجسد في رئاستي لوفد فلسطين إلى مراسيم جنازته وعزائه في بيروت ثم لاحقاً في العاصمة الأردنية. وحقاً، كانت جنازة ذلك الراحل مهيبة، مثلما كان شلال العزاء حاشداً. إن رحيل رجل الأعمال الفلسطيني البارز والناشط حسيب صباغ يشكل -حقا- خسارة فادحة لجميع الفلسطينيين بل ولكل العرب. فعالمه فضاء واسع من الإنجازات على صعيدي الإنتاج المادي، والعطاء الإنساني، والبذل السياسي. فحسيب الطالب الذي شارك زملاءه في عدد كبير من المظاهرات المناوئة للاستعمار الأوروبي فور اندلاع الحرب العالمية الثانية، هو نفسه حسيب الذي أمضى عمرا مديدا (90 عاما) مفعمة بالنشاط والتضحية، مفطوما على حب فلسطين والعروبة، ملتزما بخدمة شعبه وأمته. وهو المعطاء ذاته الذي وفر مئات المنح الدراسية للفلسطينيين واللبنانيين، وقام ببناء وإنشاء مؤسسات خيرية كثيرة فاستحق -فعلا وليس قولا- لقب "المحسن الكبير"، خاصة عندما رحل قبل أربعين يوما عن شيخوخة صالحة مسجلا حقيقة كونه -كذلك- قد أفنى حياته متمسكا بالقيم الإنسانية الراقية. كثيرون استغربوا كيف يمكن لرجل بالغ الغنى على نحو مزدوج (غنى الجيب وغنى النفس) من طينة صباغ أن يصعد -مع الصاعدين بحق- ليكون واحدا من رجالات فلسطين والعروبة، واحدا من أولئك الرجال الأشداء الملتزمين بحب الوطن الصغير والوطن الكبير، مع أن شخصه جسد -في الوقت ذاته- عصارة الإنسانية الرقيقة في حياته الخاصة والعامة. ولطالما كانت كلماته حول فلسطين منارة يهتدي بها الآخرون، وهو القائل: "لا بلد يعادل فلسطين... والنجاح مفرح، لكنني سأموت بحسرة كون شركتنا قد عمرت في ديار عربية كثيرة، ولم نتمكن من أن نُعمر في وطننا بعض ما هدمه العدو الإسرائيلي، ولم تتيسر لنا الفرصة كي نهزمه بكفاءاتنا وقدراتنا العلمية والعملية". آمن أبو سهيل بالإنسان العربي والفلسطيني. لذا، ومنذ لحظة لجوئه وعائلته إلى لبنان إثر النكبة الكبرى في عام 1948، لم ينهزم بل ثابر حتى أسس في عام 1952 مع رفيق دربه سعيد خوري (صنوه في العطاء والالتزام الفلسطيني والعروبي) ولاحقاً المرحوم كامل عبدالرحمن (الرجل المحب للحياة والإنتاج)... شركة للمقاولات في بيروت نفذت مشاريع ناجحة في مجال المقاولات والنفط، ارتقت بها عالمياً لتحتل خلال العقود الخمسة الماضية، الرقم 17 بين مثيلاتها، وبحيث امتدت مشاريعها من عمق الوطن العربي إلى مناطق بعيدة في أميركا الجنوبية والكاريبي ومعظم دول إفريقيا ودول القوقاز، مساهمة أيضا في نهوض العديد من مجتمعاتها وتطويرها. ومن هنا، نجحت الشركة في جعل رسالتها رسالة إنسانية بالتوازي مع النجاحات المادية، ومن ضمنها توظيف آلاف المهندسين والفنيين، وبخاصة الفلسطينيين واللبنانيين وباقي العرب. ولدى الشركة الآن قرابة 69 ألف موظف من 60 جنسية مختلفة في كل دول الشرق الأوسط تقريباً، فضلا عن إفريقيا ودول كومنولث الجمهوريات المستقلة. ومثلما كانت أياديه البيضاء بارزة في "الخارج" الفلسطيني، وجدناها كذلك حاضرة بعمق وكثافة في الداخل الفلسطيني، وذلك عبر مساهماته الكبيرة في الجامعات الفلسطينية: النجاح، وبير زيت، وبيت لحم في الضفة الغربية، والإسلامية والوطنية في قطاع غزة. كما امتد سخاؤه إلى الولايات المتحدة بالتبرع للمؤسسات التعليمية وللرعاية الصحية. وقد حظيت جامعتا هارفرد وجورج تاون العريقتان بسخائه، فضلا عن معهد أميريكان انتربرايز وجامعة يوريكا في كاليفورنيا وكلية ويبر في فلوريدا، بالإضافة إلى مركز جيمي كارتر الذي يدعم حماية واحترام حقوق الإنسان ويكافح الفقر عالميا. غير أن دوره في العطاء لفلسطينيين مباشرة أو من خلال "مؤسسة التعاون" أو مؤسسة "ديانا تماري صباغ"... كان دوراً رياديا جوهره: عطاء بلا حدود، وبلا تردد. لم تغب فلسطين يوما، بل ولا ثانية، عن عيني أبو سهيل أو فكره أو قلبه. فقد بادر إلى مساعدة منظمة التحرير الفلسطينية، وبنى علاقات قوية مع عرفات، وأصبح عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، ووسيطا بين عرفات والحكومة اللبنانية في أحلك ساعات عاشتها المنظمة ومقاتلوها البواسل. كما أنه اتصل بالجهات السياسية الأميركية لوقف الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، ولما لم يتم له ذلك، عمل مع آخرين على تسهيل خروج قيادة المنظمة من لبنان إلى تونس. فهو ابن الحركة القومية العربية، المسيحي ابن الجليل الذي كان يعرف جيدا كيف يوفق بين مسيحيته وفلسطينيته وقوميته. لقد عرفت حسيب عن قرب، قبل "مؤسسة عبدالحميد شومان" وعرفته عن قرب أكثر أثناءها، إذ قضيت أحد عشر عاما إلى جانبه في مجلس إدارتها. ومنذئذ، وحتى رحيله، عرفته عن قرب نسبي، بسبب سفره ومرضه. لقد وردت شهادتي الشخصية حول فقيد فلسطين الكبير في مقالة لي نشرت، ويا للمصادفة، قبل يوم واحد من وفاته حيث قلت: "إنه أكرم من عرفتُ فلسطينياً وعربياً". والآن، إذ أقف على مشارف 66 عاما ولم يبق من العمر إلا ما قدر الله، فهل يريني سبحانه وتعالى من يتفوق عليه، أو -على الأقل- من يحذو حذوه؟ وببرقية ختامية مضيئة: إن قصة "أبا سهيل" هي قصة الفرد الفلسطيني المعطاء، هكذا بدأت الحكاية. وأيضا هي واحدة من قصص كفاح الشعب الفلسطيني المعطاء الذي أحب بدوره المعطاء حسيب حبا جما... وهكذا انتهت الحكاية!