ربما قيل وكتب الكثير عن تحول الاتحاد الأوروبي الآن إلى "لاعب دولي"، وهو ما كان منتظراً أن تحققه معاهدة لشبونة بإنشائها لمنصب رئيس للاتحاد وممثل للسياسة الخارجية، وجهاز دبلوماسي. وهذه المزاعم تمثل في الوقت نفسه تعبيراً آخر عن فشل أوروبا في التصالح مع واقعها في الحاضر والماضي وتحرير مستقبلها ليعانق إمكانات القارة الواعدة. فأعضاء الاتحاد الأوروبي البارزون مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وهولندا يعتبرون فعلا لاعبين أساسيين على الساحة الدولية ويقومون بدور لا يمكن إغفاله في العديد من القضايا العالمية بالنظر إلى قوتهم الاقتصادية والتكنولوجية وقدراتهم التصنيعية والمالية والتجارية. كما أنهم، تاريخياً، إلى جانب دول أوروبية أخرى، لاسيما اليونان وإيطاليا، ساهموا في ترسيخ مكانة القارة الكبيرة في العالم. فقد أنتجت أوروبا الحضارة الغربية نفسها وصاغت التفكير الغربي الحديث الذي يكمن وراء العقلانية المعاصرة التي انتشرت في جميع أنحاء العالم. ولا يمكن بأي حال من الأحوال التعامل مع دول أوروبا على أنها مثلا دول فاشلة، أو تعيش حالة من الفوضى، أو اتهامها بأنها تستظل بالماضي والتاريخ المجيد، خلافاً للحضارات السابقة التي أمست أثراً بعد عين ولم يعد لها تأثير كبير على المسرح الدولي مثل حال الحضارة الإسلامية في دمشق وبغداد والأندلس التي كانت مناراً للعلم والتقدم وعاصرت أوروبا خلال العصور الوسطى وتفوقت عليها بأشواط! والأمر نفسه ينطبق أيضاً على الإمبراطورية العثمانية التي هيمنت على الشرق الأوسط وآسيا الوسطى لفترة طويلة حتى فشلت في مواجهة القوى الأوروبية بعد نهضتها ودخولها عصر الأنوار، لتنهار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى وترث تركتها الدول الأوروبية المتحفزة. ومع أن الصين والهند شكلتا أيضاً حضارتين كبيرتين في وقتهما ربما تضاهيان الحضارة الإسلامية الرائعة إلا أنهما أخفقتا في إجراء الانتقال الضروري من المؤسسات السياسية وطرق الحكم العتيقة إلى مؤسسات حديثة تستجيب لتطور التاريخ، وسرعان ما وقعت الصين والهند فريسة الاستعمار الهولندي والبرتغالي، ومن بعدهما البريطاني، على رغم أن حضارتهما كانت أسمى وأرقى بكثير من الغزاة الغربيين، حيث ظلتا تحت الهيمنة الأوروبية حتى وقت قريب. وإذا كانت الصين والهند قد برزتا بشكل لافت مؤخراً وتصاعدت مساعيهما لاسترجاع مكانتهما الحضارية وتبوؤ المكانة اللائقة بهما بين الأمم، إلا أن الطريق أمامهما ما زال طويلا جداً في هذا الاتجاه. وباستثناء اليابان التي حققت التقدم منذ فترة مديدة فشلت آسيا عموماً في منافسة أوروبا، أو استنساخ تجربتها الحضارية الرائدة. وعوداً على بدء، ما الذي يفسر إذن تململ أوروبا الآن وتساؤلها الدائم عن مكانتها الدولية؟ وما الذي يجعلها قارة مهووسة بسؤال المكانة، ودائمة التساؤل عن الذات، من خلال تنظيم عدد لا يحصى من اللقاءات الأكاديمية والمؤتمرات السياسية التي تنضح جميعاً بشعور فاجع بالقلق والتخوف؟ إن هذه الأسئلة غير مبررة في الواقع الأوروبي الراهن بصرف النظر عن بعض المشاكل التي تواجهها الدول المنضمة حديثاً بسبب تركتها من الفساد والجريمة وضعف مؤسساتها السياسية. ولكن في ظل الاتحاد الأوروبي سيُبذل جهد كبير للتغلب على تلك المشاكل وتحفيز الدول المنضمة حديثاً لتجاوز العقبات واللحاق بالمستوى العام للاتحاد. وفيما يتعلق بالأزمة الاقتصادية التي تعاني منها دول الاتحاد الأوروبي بسبب النظام المالي المعولم الذي لا يستثني أحداً من المعروف أن أصلها ومنشأها يرجع إلى بريطانيا والولايات المتحدة، وليس إلى أوروبا الغربية، وهي نتيجة سلسلة من العلاقات المالية المتداخلة تم استغلالها لمضاعفة ربح الشركات وقلة من الأشخاص دون الاكتراث بتداعياتها الاجتماعية، وقد تسببت فيها -كما بات واضحاً- تلك الأيديولوجية التي تسمح بعدم التدخل في الأسواق لتنظيمها، وبتجاوز حتى المعايير الرأسمالية التي أسسها آدم سميث نفسه. والنتيجة هي المشاكل التي تحدق بالاقتصادات الأوروبية، وإن لم تكن، على كل حال، أسوأ من مشاكل الاقتصاد الأميركي، بل إن أوروبا أفضل حالا بالنسبة للبطالة وديون الشركات والإنفاق العام الذي يوجه إلى الحروب وتطوير الآلة العسكرية كما هو الحال في أميركا. ولكن بيت القصيد ربما يكمن هنا، حيث يعتقد الأوروبيون أنهم لا يشكلون قوة عسكرية كبرى تستطيع التدخل للتأثير في صناعة قرار المجتمع الدولي على نحو يفيد القارة العجوز ويرضي غرورها وصورتها أمام رأيها العام. ويزيد من هذا الإحساس بالضعف العسكري الاستفزاز الأميركي المزمن لأوروبا من خلال إشعارها بأنها تعيش بفضل حماية الولايات المتحدة، وأنها تقوم بالحد الأدنى لدعم أميركا في مهماتها الدولية لتحقيق الاستقرار. ولكن بالنظر إلى الصعوبات التي تواجهها أميركا في هذا السياق فإن الوقت قد حان كي تُخرج أوروبا الولايات المتحدة من أوهام الهيمنة العالمية. فقد انقضت فترة الحرب الباردة التي كانت فيها أميركا تحمي أوروبا من التوسع السوفييتي، ولم يبق اليوم سوى ما يطلق عليه الحرب على الإرهاب التي لا تعني أوروبا في شيء، لأنها، في رأيي الخاص، موجهة أساساً ضد أميركا، ولم تكن في يوم من الأيام تستهدف أوروبا عامة، باستثناء الدول الأوروبية الأكثر تحالفاً مع أميركا. ويبدو أن الولايات المتحدة لا تكتفي بمآزق الشرق الأوسط، بل لعلها مصممة تحت إدارة أوباما على إضافة خصوم جدد في آسيا من ضمنهم الصين وروسيا، وهو ما يحتم على أوروبا الوقوف لإعلان عدم استعدادها سلوك الطريق الأميركي وبأنها ستحافظ على علاقاتها الجيدة مع البلدين. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيسز"