عندما وجه "جون برينان" مستشار الأمن القومي، اتهامات لمنتقدي أوباما بأنهم يساعدون الأعداء ويحرضونهم، ذهب تفكيري مباشرة إلى حاويات الشحن التي تصل إلى الموانئ الأميركية، فقد كتب "برينان" الذي يشغل منصب نائب مستشار الأمن القومي المكلف بالأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب مقالًا بصحيفة "يو. إس. إيه توداي"، يشير فيه إلى أن الأشخاص الذين انتقدوا طريقة تعامل إدارة أوباما مع الإرهابي الذي حاول تفجير الطائرة الأميركية في عيد الميلاد "زيفوا الحقائق لتسجيل نقاط سياسية بدلًا من أن يوحدوا صفوفهم معنا لحماية أمننا الجماعي"، وتابع "برينان": "لا يجب للسياسة أن تعترض طريق الأمن القومي، لأن الانتقادات التي تحركها الدوافع السياسية والتخويف غير مبنية على أساس، بل هي فقط تخدم أهداف القاعدة"، لكن أمن الموانئ لم يحظَ بالتغطية الإعلامية خلال الأيام السابقة، لذا قد يُعذر المرء لعدم رؤيته العلاقة بين الاتهامات النارية التي أطلقها "برينان" ووجهها لمنتقدي إدارة أوباما وبين حاويات الشحن التي تصل إلى الموانئ الأميركية، وهي الصلة التي كانت حاضرة بقوة عندما كان "الديمقراطيون" يتهمون إدارة بوش بتعريض أمن البلد للخطر بعدم إقدامها على فحص وتفتيش كل حاوية تصل السواحل الأميركية على متن سفن الشحن القادمة من الخارج، فقد حمل "السيناتور" جون كيري بشدة على بوش خلال الحملة الانتخابية لعام 2004 لفحصه فقط 5 في المئة من الشحنات الأجنبية، وبعد إعادة انتخاب الرئيس بوش لولاية ثانية، ساهم السيناتور "الديمقراطي"، روبرت مينديز، في صياغة مشروع قانون يقضي بتفتيش مائة في المائة من الحاويات بحلول العام 2012 قائلاً:"أي شيء أقل من التفتيش الكامل يعتبر إجراء غير مسؤول وضرباً من الإهمال"، وقد وافق على هذا التقييم كل من زعيمة الأقلية "الديمقراطية" في الكونجرس، نانسي بيلوسي، والنائب بيني تومبسون، الذي يرأس حالياً لجنة الأمن الداخلي في الكونجرس. وقد حاول وقتها المسؤولون في إدارة الرئيس بوش توضيح أن مراقبة مائة في المائة من الحاويات أمر غير ممكن تحقيقه وستتعرض التجارة للتوقف، بحيث لا توجد تكنولوجيا قادرة على تمرير العدد الكبير من الحاويات، ناهيك عن افتقار المال للقيام بذلك، لذا تبقى المقاربة الأفضل هي اختيار بعض الحاويات وإخضاعها للمراقبة بالاستناد إلى التقييمات الأمنية. وبالطبع لم يكن النائب "الديمقراطي" جيري نادلير- ومعه باقي زملائه في الحزب يقبلون بمثل هذه التفسيرات- حيث قال محتجاً: "لقد أهدر الجمهوريون سنوات دون أن يعملوا على حماية موانئنا، إنهم يتكلمون كثيراً عن الأمن، لكن عندما يتعلق الأمر بالإجراءات التنفيذية لا نلمس أي تقدم، فالأمن الداخلي يبدأ من الموانئ لذا سيجعل الديمقراطيون من تفتيش جميع الحاويات سياساتهم الرئيسية". والحقيقة أنه حتى بعد تولي إدارة أوباما زمام الأمور، لم يتغير الأمر كثيراً وظل جزء فقط من الحاويات يخضع للتفتيش والمراقبة، فقد أشارت وزيرة الأمن الداخلي، "جانيت نابوليتانو"، منذ أكثر من سنة، وأكدت ذلك مجدداً في ديسمبر الماضي أن الموعد الذي حدده القانون في 2012 لتفتيش مائة في المائة من الحاويات لا يمكن الالتزام به، موضحة أن التكنولوجيا غير متوفرة حالياً، كما أن الموارد المالية شحيحة، فكيف جاءت ردة فعل "الديمقراطيين" على هذا الكلام؟ الواقع أنهم التزموا الصمت جميعاً، فقد اعترف النائب "تومبسون" الذي كتب بلاغاً يشيد فيه بميزانية أوباما حول الأمن الداخلي بـ "خيبة أمله" فيما يتعلق بمراقبة الحاويات، أما "مينديز"، فقد اكتفى بتوجيه رسالة إلى وزيرة الأمن الداخلي، وأخبرني المتحدث باسمه أنه بصدد كتابة رسالة أخرى، فيما قال نادلير إنه "ما دامت الإدارة لم تعلن بشكل رسمي عدم الوفاء بالموعد المحدد في القانون فلسنا مضطرين للرد رسمياً". لكن من الصعب تصور ما هو أكثر رسمية من تصريحات "نابوليتانو" عندما أبلغت لجنة في مجلس الشيوخ في شهر ديسمبر الماضي أن وزارتها "ستكون مضطرة لطلب تمديد الموعد الذي حدده القانون فيما يتعلق بتفتيش جميع الحاويات"، وبعد تلك التصريحات لم يجد "فرانك لوتينبورج"، الذي كان أحد أبرز المدافعين على القانون سوى التعبير عن تعاطفه مع الوزيرة والإشادة بجهودها لتعزيز الأمن الداخلي، فهل كانت البلاد في خطر وشيك عندما كان وزير الأمن الداخلي في عهد بوش، "مايكل شيرتوف"، ينهج سياسة مماثلة للوزيرة الحالية دون أن تتوقف انتقادات "الديمقراطيين " له؟ وهل كان "الديمقراطيون" وقتها، حسب تعبير برينان، "يزيفون الحقائق لتسجيل نقاط سياسية"؟ بالطبع كانوا يقومون بذلك، لكن وبصرف النظر عن التكسب السياسي الذي يسعى إليه الحزبان من وراء قضايا الأمن الداخلي، فإن هناك أخطارا حقيقة وأسئلة مشروعة حول تهديد "القاعدة" يثيرها السياسيون في كلا الحزبين، خاصة في وقت يُخفض فيه أوباما ميزانية التفتيش، وبالمثل يريد "الجمهوريون" إظهار أوباما بأنه ضعيف في محاربة الإرهاب وكسب النقاط السياسية من وراء ذلك، إلا أن انتقاداتهم كشفت بالفعل عجز إدارة أوباما الواضح في التعامل مع الإرهابي الذي كان سيفجر الطائرة الأميركية قبل تحويله إلى النظام القضائي، وهو ما سيحول دون تكرار هذه الأخطاء في المرات القادمة. وبالطبع قد يبدو هذا الصراع بين الحزبين صبيانياً، وربما بالفعل كما قال "برينان" "يخدم أهداف القاعدة"، لكنه أيضاً قد يخدم أميركا. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"