تشهد سجالات الفكر العربي المعاصر على أن المثقفين العرب لم يتوانوا عن ممارسة النقد الثقافي الشامل لسلبيات المجتمع العربي. فعلوا ذلك كمثقفين أفراد، نشر بعضهم من أصحاب القامات الفكرية العالية كتباً بالغة الأهمية أثرت على وعي المثقفين في المشرق والمغرب والخليج. وبعض هؤلاء المثقفين كانوا أصحاب مشاريع فكرية متكاملة، تمثلت في سلسلة من الكتب المترابطة التي انطلقت من صياغة مشكلة بحثية رئيسية، تفرعت عنها مشكلات فرعية متعددة. ولعل أبرز أصحاب هذه المشروعات الفكرية المتكاملة هم الدكتور محمد عابد الجابري في سلسلة كتبه المهمة عن العقل العربي، والدكتور محمد أركون الذي قدم قراءة جديدة للفكر العربي الإسلامي معتمداً في ذلك على المناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية، والدكتور حسن حنفي في كتاب "التراث والتجديد" وما تبعه من كتب متعددة أخرى، والدكتور الطيب تزيني في كتاب "من التراث إلى الثورة"، وما تبعه من كتب أخرى. وقد اختلفت المناهج التي طبقها أصحاب هذه المشروعات الفكرية الكبرى، وإن كانوا جميعاً على دراية وثيقة بالمناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية، مثل الدراسات الفينومولوجية والأنثروبولوجية، وتحليل الخطاب، والمدرسة الماركسية الحديثة. ومن هنا يمكن القول إنه إذا أردنا أن نتتبع الجهد الفكري والنقدي لأجيال المثقفين العرب، لابد أن نقف عند عدد منهم ركزوا تركيزاً خاصاً على الخصائص الحاكمة للمجتمع العربي. ومن أبرز المحاولات في هذا الاتجاه رؤية محمد أركون للمجتمع العربي باعتباره نصاً جامداً لابد من تفكيكه، وهو عند محمد عابد الجابري بمثابة عقل متهافت، وأخيراً هو عند المفكر هشام شرابي بنية اجتماعية قمعية. ويحدد "أركون" هدفه الأساسي من مشروعه وهو التوصل إلى معرفة أفضل لوظائف العامل العقلاني والعامل الخيالي (الذي يطلق عليه المخيال)، ودرجات انبثاقهما وتداخلهما وصراعهما في مختلف مجالات نشاط الفكر التي سادت المناخ الإسلامي. وفي رأيه أن أحد أسباب الأزمة العميقة في المجتمع العربي هو سيطرة الفهم الأسطوري للدين، والذي كان من شأنه أن يخفي الجوانب العقلية فيه. ويرى أنه بدون الكشف عن جذور هذا الفهم الأسطوري وتعريفه وإظهار حقيقة المعارك السياسية والاجتماعية التي دارت باسم فهم خاص للنص الإسلامي كغطاء ديني، لا يمكن للمجتمع العربي أن يتقدم. أما محمد عابد الجابري فهو ينظر للمجتمع العربي باعتباره عقلاً متهافتاً يحتاج إلى تحديث، لأنه عقل ساكن هيمن الجمود على جنباته، وهو يحتاج إلى نقد جذري يكشف عن الأنظمة المعرفية الأساسية التي يقوم عليها. وهذه الأنظمة ثلاثة، وهي "النظام المعرفي البياني" الذي يؤسس الموروث العربي الإسلامي الخالص (اللغة والدين كنصوص)، و"النظام المعرفي العرفاني" الذي يؤسس قطاع اللامعقول في الثقافة العربية الإسلامية (طريق الإلهام والكشف). وأخيراً "النظام المعرفي البرهاني" الذي يؤسس الفلسفة والعلوم العقلية (الأرسطية خاصة)، والبرهان في العربية هو الحجة الفاصلة البينة. والجابري يرد أزمة المجتمع العربي إلى تفكك هذه النظم الثلاثة واختلاط مفاهيمها وتداخلها. وهذا التداخل يسميه التداخل التلفيقي. الذي أدى إلى تهافت التفكير العربي. ونصل أخيراً إلى "هشام شرابي" الذي وجد مفتاح أزمة المجتمع العربي المعاصر في مفهوم المجتمع البطريركي أو الأبوي الذي أدى إلى تغير اجتماعي مشوه. والمجتمع العربي الأبوي عنده هو المجتمع العربي التقليدي الذي تأثر بالحداثة الأوروبية، ويشمل عنده الأبنية الاجتماعية الكلية (المجتمع والدولة والاقتصاد) كما يشمل الأبنية الاجتماعية الجزئية (العائلة أو الشخصية الفردية)، والمجتمع العربي التقليدي الحديث يعد -في نظره- ناتجاً من نواتج هيمنة أوروبا الحديثة، لأن عملية التحديث وفقاً لمعطيات المجتمع الأبوي لا يمكنها إلا أن تكون مبنية على التبعية وعلاقات التبعية تؤدي حتماً لا إلى الحداثة، بل إلى مجتمع أبوي "ملقح بالحداثة"، بحيث إن عملية التحديث تصبح نوعاً من الحداثة المعكوسة! وفي رأي "شرابي" أن النظم السياسية العربية القائمة تحتكر الكلام باعتباره شرطاً للاستقرار والاستمرار. ومن هنا الدور الذي يقوم به ما يسميه الكلام اللاحواري (المونولوج). وفي جميع أشكال الخطاب البطريركي الحديث يظهر نمط الخطاب اللاحواري في ميل أصحابه إلى استثناء المتكلمين الآخرين أو تجاهلهم! غير أنه يلفت نظرنا إلى أن النمط اللاحواري موجود في صلب الخطاب ذاته، بمعنى أنه ليس ناجماً عن القوة أو السلطة وحدها، بل أيضاً عن اللغة ذاتها، لأنها تشجع البلاغة على حساب الحوار. وخطورة الخطاب اللاحواري حين يسود المجتمع تبدو فيما يتعلق بنظرية المعرفة، وذلك فيما يتعلق بطريقة إثبات الحقيقة أو تقدير صحة الوقائع. وبناء على ذلك لا يظهر في الكلام أو الكتابة على النمط اللاحواري أي شك أو تردد. فالحقيقة التي تؤكد في الخطاب اللاحواري هي الحقيقة المطلقة، المرتكزة أولاً وأخيراً على الوحي أو على الخيال الاجتماعي. وسيادة هذا الخطاب في المجتمع تعني في الواقع نفياً لخطاب الآخر. وذلك لأن الحوار -على العكس- يعني أنه ليس هناك خطاب نهائي، على أساس أن حرية التساؤل وحدها هي التي تؤدي إلى المعرفة الحقة. فالحقيقة ليست من فعل السلطة، بل هي نتيجة بحث ونقد واتفاق في الرأي والنظر. وفي ضوء هذه المداخل الثلاثة لتشخيص أزمة المجتمع العربي المعاصر، يمكن القول إنه على رغم اختلاف الزوايا التي نظر منها كل مفكر من المفكرين الثلاثة للأزمة، إلا أنها جميعاً يمكن اعتبارها تشخيصاً متكاملاً. وعلى ذلك يمكن أن نطرح سؤالا أساسياً: هل يمكن إحياء المجتمع العربي المعاصر عن طريق المواجهة المباشرة مع كل السلبيات التي أبرزها هؤلاء المفكرون؟ في تقديرنا أن ذلك ممكن لو تحولت اتجاهات النخب السياسية الحاكمة لكي ترقى إلى مستوى تحديات العصر الذي تسوده شعارات الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان. كما أنه لابد من تكاتف جهود المثقفين ومؤسسات المجتمع المدني، لإعلاء شأن العقلانية على حساب التفكير اللامنهجي، والتحرر من كل تجليات النزعة الأبوية، التي تعتقل في الواقع المبادرات الإبداعية للمؤسسات والأفراد على السواء.