يتخرج الشاب أو الشابة من الثانوية العامة ويبدأ بالبحث عن جامعة يلتحق بها أو كلية ينتسب إليها أو حتى وظيفة يعمل فيها فيكتشف أن الكل ينتقده ويقلل من شأن ما درسه طوال 12 سنة. يصاب بالصدمة من المجتمع فهو كالفراشة التي خرجت للتو من شرنقتها تريد الانطلاق في هذه الحياة -يكتشف لاحقا أنه في هذه اللحظة كاد ينزلق- أنه يريد أن يدرس كي يحقق طموحاته وأحلامه التي طالما راودته وهو في بيت والده فيكتشف أن أحدا لا يعير اهتماما لما درسه وكأن كل ما درسه لا قيمة له! لكنه يبدأ باستيعاب هذه الصدمة ولو بشكل جزئي ويعتبر هذا مجرد كلام سمع شيئا منه وهو في المدرسة وفي المجالس. ويذهب إلى الجامعة ليستمع منذ اليوم الأول الانتقادات التي توجه إلى النظام التعليمي في المدارس ويستمع إلى القائمين على الجامعة أو العاملين فيها عن الطلبة الجدد الذين يدخلون الجامعة ويتكلمون عن عدم صلاحيتهم للدراسة الجامعية وأنهم غير جاهزين لهذه المرحلة... فيتلقى الصدمة الثانية بانزعاج أكبر ويبدأ يفكر في الأمر بشكل جدي لكن في الوقت المناسب يتدخل والده ناصحا إياه بأن يركز في دراسته ولا يلتفت كثيرا إلى هذه الأمور. ولحسن الحظ فإنه يستمع إلى والده... ثم يبدأ الدراسة الجامعية. ودون أن يقول له أحد أي شيء هذه المرة، يكتشف أن كل ما درسه في سنواته الماضية في المدرسة لا علاقة له بما يدرسه في الجامعة. لكنه يكون قد وصل إلى مرحلة يدرك فيها مصلحته فيكمل دراسته بجد لكي يتخرج ويجد وظيفة جيدة. الكل يقولون له: ادرس لتعمل... تخرج كي تجد وظيفة، ولا أحد قال له ادرس للتعلم وتعلم كي تعرف كيف تعيش وكيف تكمل بقية حياتك. المهم أنه يتقبل الأمر فهو ابن الواقع وولد المجتمع. وقد استوعب أنه كان ضمن "تجارب تعليمية" تتغير كل عدة سنوات. أما المواطن الآخر الذي لم يرغب في استكمال دراسته الجامعية فقد بدأ بالبحث عن عمل بشهادته الثانوية وبحث حتى تعب فوجد وظيفة معقولة لكن راتبها لن يساعده إلا في دفع أقساط السيارة ومصروفه اليومي. أما إذا فكر في الزواج أو بناء منزل فعليه أن يبحث عن مصادر أخرى للتمويل. وكي لا يصاب بحالة من فقدان التوازن عليه أن لا يفكر كيف سيصرف على أطفاله ومدارسهم. وإذا ما أصر على أن يدخل المغامرة فعيله أن يحتمل ما يأتيه. بعد أربع سنوات من الجد والاجتهاد، يتخرج الشاب الذي درس في الجامعة رغم كل التحديات والصعوبات، كي يبدأ بالبحث عن فرصة عمل. وفي بلادنا فرص العمل بالملايين حيث يأتي الآخرون من الخارج ويحصلون على أفضلها. وحين يبدأ بالبحث يقولون له شهادتك ممتازة لكن لو كنت درست في الخارج ستكون فرصتك أفضل لأن الذين يدرسون في الخارج يمتلكون مهارات أفضل وهم كفاءات متميزة... وبعد لف ودوران يجد الشاب وظيفة شاغرة فيطلبها فيقولون: للأسف هذه الوظيفة تحتاج إلى خبرة ورغم أنك ممتاز وشخصيتك جيدة ولغتك الإنجليزية ممتازة لكن هذه الوظيفة تحتاج إلى خبرة وهل تصدق أننا نبحث عن مواطنين لهذه الوظيفة منذ ثلاث سنوات ولم نجد أحدا! الحقيقة الساطعة في المجتمع أنه يتطور بشكل سريع وبالتالي فإن الوظائف الجيدة التي يخلقها ليست للخريجين لعدم امتلاكهم الخبرة المطلوبة، أما الوظائف التي تخصص للخريجين فرواتبها ضعيفة ويفضل القائمون على شؤون التوظيف تعيين غير المواطنين لأن رواتبهم أقل والاستغناء عنهم أسهل. وهنا يضيع الخريج الجديد فلا يفهم لماذا لا يقف بجانبه أحد ويستغرق وقتا طويلا للحصول على الوظيفة في بلد ملايين الفرص؟! ومع الوقت تذهب الفرص الوظيفية الجيدة لغير المواطنين لأننا لا نملك الوقت للانتظار على المواطن كي يكتسب الخبرة المطلوبة والتي عامل الوقت فيها مهم، ونحن "مستعجلون نريد أن نخلص". والحقيقة أن لدينا الوقت لكن "البعض" القليل ليس لديه وقت. يبدو واضحا أننا صرنا في السنوات الأخيرة سريعين في حركتنا بل "مستعجلين" في كل شيء نريد أفضل تعليم خلال سنتين أو ثلاث ونريد أفضل مستوى صحي بمجرد إنشاء الهيئات والشركات الصحية وإنشاء المؤسسات والأعمال والمشاريع خلال وقت قصير... وكل هذه الأمور مرتبطة بالإنسان وأي شيء يرتبط بالإنسان يحتاج إلى وقت غير قصير. والمواطن لا يمكن استيراده من الخارج فالمواطن يصنع في الداخل ومن الداخل ويحتاج إلى سنوات حتى يكون جاهزا. أما الاستعانة بـ"الإنسان" من الخارج فيمكن أن يكون في بعض الأمور فقط. والسؤال المهم هو: لم هذه العجلة التي قد تضر بكثير من الأسس والثوابت وقد تُفقد المجتمع خصائصه وتؤثر على جودة العمل ونتائجه؟ التنمية الصحيحة هي التي تتناسب وتطور الإنسان والمجتمع، وهي التنمية التي يستطيع أن يستوعبها المواطن ويتأقلم ويتفاعل وينسجم معها ويشعر بأنه جزء أصيل منها. وليست تنمية مستوردة لأن المواطن إذا لم يكن جزءاً منها فإنها قد تؤثر عليه سلباً وتؤخر النجاح... وهذه ليست دعوة للتراجع عن العمل والإنجاز بل دفع للسير بالسرعة التي تناسب المجتمع فلا يداس الإنسان. هناك مشاريع الإسراع فيها بل وحتى الاستعجال في تنفيذها مبرر ومطلوب ولا يؤثر على أحد بل العكس فكلما زادت سرعة تنفيذها كلما زادت الفائدة منها وكشفت مدى القدرة على النجاح والتميز كمشاريع البنى التحتية والمشاريع الصناعية والزراعية والعمرانية والمشاريع الخدمية.