جاءت التصريحات التي أدلى بها ريتشارد هولبروك حول مساعي احتواء "طالبان" خلال مؤتمر الأمن الأخير الذي عقد في ميونيخ بألمانيا كصدى لتعليقات سابقة لمسؤولين أمميين وقادة عسكريين في الجيش الأميركي بالعاصمة كابول تؤكد جميعاً أن العمل الدبلوماسي في أفغانستان ربما دخل الآن مرحلة جديدة من الحركة والنشاط، ويبدو ذلك صحيحاً إلى حد بعيد على رغم، أو بالتنسيق مع الحملة العسكرية التي تشنها قوات حلف شمال الأطلسي بالمناطق الجنوبية الأفغانية. ولكن لكي تصادف هذه المساعي النجاح المنشود يتعين على التحرك الدبلوماسي التغلب أولاً على بعض العقبات الأساسية لعل أهمها تحديد مهمة أميركا بوضوح في أفغانستان، إذ إن "البنتاجون" والبيت الأبيض فشلا إلى حد الآن في رسم صورة واضحة عما تريده أميركا بالتحديد في أفغانستان، وهل الأمر يتعلق بإلقاء القبض على قادة "القاعدة"؟ أم إلحاق الهزيمة بحركة "طالبان" وتشكيل حكومة حليفة؟ وحسب رؤية الرئيس أوباما تُعتبر الحرب في أفغانستان حرب ضرورة، في المقام الأول، لأن تلك البلاد هي المكان الذي يفترض أن "القاعدة" تتخذه مأوى، ومقراً لها، ولذا يتعين الاستمرار في التواجد هناك حتى يتم القضاء عليها. ولكن بالإضافة إلى هذا الهدف وضع أوباما هدفاً آخر تمثل في ضمان استقرار باكستان وتأمين أسلحتها النووية للحيلولة دون سقوطها في أيدي المتطرفين، وهو أمر مختلف عن الحرب في أفغانستان، كما أنه من غير المرجح أن يسمح الجيش الباكستاني ذو الميول القومية القوية والمناهض أصلا للولايات المتحدة بالتدخل في الشؤون الداخلية لبلاده، بأي شكل. فهل يتعلق الأمر أيضاً باحتمال تدخل عسكري آخر للولايات المتحدة في باكستان؟ الحقيقة أن أميركا منخرطة أصلا في الحرب الأفغانية وهي ليست في حاجة إلى توسيعها، كما أن العراق لم تستقر الأمور فيه بعد، وقد تنفجر في أية لحظة قبل موعد الانتخابات المقرر عقدها في شهر مارس المقبل بعد محاولات الحكومة إقصاء المرشحين السنة المتهمين بالارتباط بحزب "البعث" المحظور، فما الهدف إذن من التورط في باكستان مع العلم أن مثل هذا الانخراط سيجر معه احتمال انخراط الهند، بهذه الطريقة أو تلك؟ وبخصوص هذا الغموض الذي يلف الأهداف الأميركية في أفغانستان أخبرني زميل لي مختص في الدراسات الاستراتيجية بأنه زار مؤخراً واشنطن ولم يعثر على أي من معارفه في مراكز الدراسات وفي مجلس الأمن القومي الأميركي ممن يستطيع تقديم تفسير متماسك عما تفعله الولايات المتحدة في أفغانستان، وعلى رغم وجود خطة على الورق تشير إلى دحر "القاعدة" وتحييدها كهدف أميركي، إلا أن "القاعدة" مهما كان نوع وجودها في أفغانستان تستطيع المغادرة في أية لحظة وقطع صلتها بذلك البلد، بحيث تستطيع القيادات والعناصر المهمة الرحيل خلال وقت وجيز فيما يمكن للآخرين الاختفاء بسرعة والتفرق في البلاد، وهو ما يقودنا إلى عقبة أخرى متمثلة في القواعد العسكرية متعددة الجنسيات التي تقوم أميركا ببنائها في أفغانستان، فضلا عن البنية التحتية العسكرية وخطوط الإمدادات التي تظل هشة إلى حد كبير بهدف منع "طالبان" من السيطرة على البلاد. ويبدو أن الولايات المتحدة تقوم بذلك لحماية الحكومة الأفغانية في كابول، غير أن السؤال هو: لماذا تقوم بذلك؟ ألا تستطيع الحكومة الدفاع عن نفسها؟ أو عقد صفقتها الخاصة مع أغلبية البشتون في البلاد التي توفر الدعم لحركة "طالبان"؟ الحقيقة أن الجهود التي بذلتها إدارة أوباما للقضاء على "طالبان" لم تكلل بالنجاح حتى الآن، كما أن أفغانستان لا توفر الجغرافيا المناسبة لتطبيق استراتيجية مكافحة التمرد الكلاسيكية، أو استخدام الطرق العسكرية التقليدية، وهو ما دفع أوباما إلى الاعتماد على الطائرات بدون طيار مع ما تخلفه من خسائر في أوساط المدنيين الذين تسعى الاستراتيجية الجديدة، مع ذلك، لاستمالتهم وكسب ودهم. وقد عبر هولبروك خلال مؤتمر ميونيخ عن أسفه لعدم اهتمام القادة الأميركيين في السابق بمسألة المصالحة مع "طالبان"، مشيراً إلى ضرورة الفصل بين "طالبان" وباقي البشتون الذين تعيش الحركة في وسطهم. وتشبه خطة المصالحة التي يقترحها هولبروك مشروع المصالحة الذي طبقه الجنرال ديفيد بترايوس في العراق واستطاع من خلاله استمالة القيادات القبلية السنية وإقناعها بالانقلاب على "القاعدة". وفي هذا الإطار نقلت التقارير في الأسبوع الماضي أن إحدى القبائل الأفغانية الكبرى، "شينواري"، انقلبت على "طالبان" على الأرجح لأسباب تخصها ما دفع واشنطن إلى تخصيص ملايين الدولارات لتنمية المناطق الأفغانية وتقديم الدعم للزعامات القبلية هناك. والمشكلة هنا أنه حتى في حالة توسع تجربة استمالة القبائل الأفغانية إلا أنها لا تضمن بالضرورة ولاءها للحكومة في كابول التي تفتقد المصداقية وينخرها الفساد، بل إنها قد تكرس التهدئة فقط مع الجيش الأميركي وقوات حلف شمال الأطلسي. ولن تفيد عملية احتواء القبائل في حل الصراعات الداخلية في أفغانستان، لاسيما بعد مغادرة الأميركيين للبلاد. وحتى لو نحينا مصير "القاعدة" جانباً فإنه من غير المرجح التوصل إلى تسوية متفاوض عليها في أفغانستان بدون انخراط ودعم الدول المجاورة التي تطالب بجلاء القوات الأميركية من المنطقة، فهل تقبل أميركا بذلك؟ السؤال هو: لمَ لا؟ ما هي مصلحة أميركا في إبقاء قواعد عسكرية دائمة في بلدان غرب وجنوب آسيا؟ هذا سؤال أساسي يتعين الإجابة عنه وتوضيحه للرأي العام لأن واشنطن، وكما قالت هي نفسها، لم تذهب إلى أفغانستان لحكم آسيا، بل للعثور على قادة تنظيم "القاعدة". ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيسز"