في بعض الحالات يرتبط أمن الولايات المتحدة بقرارات تتخذ في موسكو، وهو ما يتضح مثلا من ثناء أوباما على اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية بين بلاده وروسيا في خطابه الأخير عن حالة الاتحاد. وهذه القرارات -بدورها- تتعلق بالسياسات الداخلية الروسية. والسؤال الجوهري هنا يتعلق بما إذا كان خطاب الرئيس الروسي، ميدفيديف، ذي النبرة الراديكالية الآخذة في الزيادة، سوف يبدأ في التحول إلى سياسات واقعية تقطع مع سياسات سلفه في الرئاسة ورئيس الوزراء الحالي بوتين؟ بمعنى آخر؛ هل يمكن لعام 2010 أن يصبح عام ميدفيديف المعادل لعام 1987 "الجورباتشوفي"... أي ذلك العام الذي بدأ فيه جورباتشوف ولم يكن قد مضى عليه في الرئاسة سوى عامين فقط، في انتهاج سياسة "الجلاسنوست" (المكاشفة) والدمقرطة؟ كما حدث مع جورباتشوف عام 1987، يواجه ميدفيديف في عام 2010 صعوبات عدة. فمثلا نجد أن خطبه لا تزال مفعمة بذلك النوع من الطنطنة والدعاية الصريحة التي ميزت خطاب بوتين. والأكثر من ذلك، وعلى النقيض من السلطة الرهيبة التي كان جورباتشوف يستمدها من منصبه كسكرتير عام للحزب الشيوعي السوفييتي، تبدو سلطة ميدفيديف، وكأنها مستعارة من بوتين. ومن الملاحظ أن الرئيس الروسي لم يكتف فقط بالانقطاع عن المبادئ الرئيسية للبوتينية، بل بدأ يعارضها ويتنصل منها، وقد قام بتقليص مكونات النظام السياسي والاقتصادي الذي ورثه عن سلفه. وقد بدا نقد ميدفيديف حادا ومركزا، على نحو خاص في المقالة التي كتبها بعنوان "إلى الأمام... ياروسيا!"، والتي نشرت في الموقع الإلكتروني لمجلة "أوبوزيشن ويب ديلي جازيتا" المعارضة، ثم كُرِرت بنصها تقريبا، بعد مزجها ببعض الإكليشيهات الدعائية في خطاب ألقاه أمام البرلمان الروسي في نوفمبر الماضي. في ذلك الخطاب قال ميدفيديف عن الاقتصاد الروسي إنه "مصاب بتخلف مزمن، وبدائي، يعتمد على تصدير المواد الخام، ويتجاهل احتياجات الناس، وأن المشروعات التجارية العاملة في نطاقه معادية للابتكار والتصنيع، وتتاجر بالسلع والبضائع المستوردة". ووصف القدرة التنافسية للبضائع المصنوعة في روسيا بأنها "متدنية لدرجة تدعو للخجل، وأن إنتاجية العامل الروسي ضئيلة، وهو ما ينطبق أيضا على الخدمات الاجتماعية نصف السوفييتية في طبيعتها". ومضى الرئيس الروسي في نقده ليقول إن "الفساد متفش في كل مكان، وإن الناس لا حول لهم ولا قوة أمام الاستبداد وعدم الحرية والاحتقار للقانون والمحاكم الذي يغذيه الفساد المنتشر في مجتمع يكاد يخلو من المبادرة والأفكار الخلاقة، ويتولى فيه أصحاب الأمر والنهي اتخاذ القرارات نيابة عن الجميع". ودعا ميدفيديف لإنهاء عهد "التعالي والغطرسة وعقد النقص وعدم الثقة والعداء في العلاقات مع الديمقراطيات الرئيسية في العالم، وتغيير سياسة روسيا القائمة على المواجهة والانعزال عن الآخرين". غير أن أكثر مظاهر القطع مع الخطاب "البوتيني" دلالة، حتى وإن لم يلحظ ذلك سوى قليلين، هو ذلك الجزء من خطاب ميدفيديف الذي تعلق بموضوع التحديث. فخطاب ميدفيديف في هذه الجزئية يكاد يصل إلى رفض خيارات بوتين: فقد كتب يقول إن النفط والغاز لا يمكن أن يكونا حجر الزاوية ومحركي التقدم والرخاء الروسي الدائمين، وأنه يجب على روسيا تطوير اقتصاد "ذكي" قائم على المعرفة. كما رفض ميدفيديف النموذج الكلاسيكي للتطور الروسي القائم على الاختراقات الصناعية المصحوبة بالتوسع الدائم في سيطرة الدولة على المجتمع، وانتقد المحاولات المتكررة لتبييض وجه الستالينية والتي كانت تتم في عهد بوتين، قائلا في مقال نشره على موقعه الشخصي على الإنترنت، إن تحقيق مصالح الدولة لا يبرر "تدمير حياة الملايين من أبناء شعبها". والنموذج الذي يقترحه ميدفيديف للتقدم يقوم، وفقا لـ"واشنطن بوست"، على القيم الإنسانية وعلى الحرية والمسؤولية الشخصية، والنجاح الشخصي. وقد ذكر في خطاب نوفمبر أن الدولة يمكن أن تنجح في تطوير نموذج مختلف من التحديث، ليس من خلال القهر بل من خلال الإقناع، وليس من خلال القمع بل من خلال تنمية القدرات الخلاقة لكل شخص، وليس من خلال الخوف بل من خلال العمل على تحقيق المصالح الذاتية للجميع. أما ماذا سيكون رد بوتين وما هي طبيعة العلاقة بين الرجلين، فتبقى سؤالا كبيرا يحتاج إلى إجابة. كما يتساءل الناس أيضا: هل ما يحدث الآن ليس سوى ملهاة تهدف إلى صرف أنظار الناس حتى يعود بوتين إلى السلطة في الكرملين مرة ثانية عام 2012؟ لا أحد يعرف الإجابة عن مثل هذه الأسئلة سوى بوتين نفسه. حتى الآن اختار بوتين اتباع استراتيجية تقوم على تجاهل الانتقادات التي يوجهها شريكه الأصغر، فهو لا يتحدث عن خليفته مباشرة، ويؤكد على مبدأ الإجماع السائد في القيادة. لكن هذا لا ينفي أن تفنيدات بوتين، فعلا أو قولا، يمكن أن تأتي بسرعة إذا ما لزم الأمر. ومن أمثلة ذلك أنه عندما أعلن ميدفيديف ومستشاروه في يونيو أن روسيا على وشك الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، سارع بوتين خلال أيام بعد ذلك إلى التصريح بالقول إن روسيا لن تفعل ذلك إلا من خلال اتفاق جمركي يضمها مع بيلاروس وكازاخستان، أي أنها لن تنضم في المستقبل القريب. وعندما وضع ميدفيديف مقالته المعنونة "إلى الأمام... يا روسيا" على الإنترنت، قال بوتين في لقاء له مع الصحفيين والخبراء في نفس اليوم، إن سياسات روسيا واقتصادها "تتفق تماما مع المعايير الدولية". إن هذه المباراة اللفظية الوهمية بين الرجلين يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية إلى أن يكتشف ميدفيديف، مثله في ذلك مثل جورباتشوف، أن تحقيق أي تقدم، اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي، أمر ليس ممكنا إلا من خلال استرداد قدر من الثقة بين الدولة والمجتمع... بين السلطة والشعب. وما يجب على ميدفيديف فعله بعد ذلك، هو التوفيق بين الأقوال والأفعال، والكشف عن مواطن الفساد، ومحاكمة المتورطين في جرائم القتل الغامضة التي تعرض لها المعارضون، والبدء في إجراء تحقيق حول الانتخابات التي جرت في أكتوبر، ومتابعة تنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه في خطاب "حالة روسيا" بمراجعة -وخصخصة في نهاية المطاف- مؤسسات الدولة والتي يعتقد أنها تمثل معاقل للفساد وسوء الإدارة والتحقيق في تفجيرات الشقق عام 1999، والتي يقول المنتقدون إنها من تدبير الأجهزة السرية الروسية لتبرير غزو الشيشان وتعزيز شعبية بوتين... وعليه في النهاية أن يخفف من القيود، ويلغي رقابة الكرملين على أجهزة الإعلام، حتى يتمكن الروس من معرفة حقيقة الأحوال في بلادهم. إذا ما أراد ميدفيديف أن يحذو حذو جورباتشوف حقا فإن خطابه يجب أن يكون مقدمة لأفعاله. ويجب أن تكون "جلاسنوست" 2010 متبوعة بـ"بروستريكا" (إعادة بناء) حقيقية. وبدون ذلك فإنه سيفشل في وضع بصمته الخاصة على الأحداث ثم يتلاشى في غياهب اللاجدوى وانعدام الأهمية. ------- ليون آرون مدير مركز الدراسات الروسية في معهد "أميركان إنتربرايز" ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "أم سي تي إنترناشيونال"