ودّعت الهند مؤخراً رمزاً من رموزها التاريخية هو السياسي الماركسي "جوتيريندرا باسو" الذي رحل عن 95 عاماً بعدما حفر اسمه في تاريخ ولاية "البنجال الغربية"، بل في تاريخ الهند بأسرها كأحد أطول رؤساء حكوماتها المحلية بقاء في السلطة، وأكثرهم وهجاً وحضوراً وإنجازاً. لكن الأهمية التي جسدها الراحل، لم تأتِ من هذا وحده، وإنما أيضاً من حقيقة إيمانه بالعمل من خلال الديمقراطية الهندية لتحقيق أجندته الماركسية، وذلك بمعنى عدم لجوئه للأساليب العنيفة والقهرية للاستيلاء على السلطة والبقاء فيها، على نحو ما فعله أقرانه الماركسيون الصينيون والسوفييت وغيرهم، بل إن الراحل كشف للعالم أجمع عن زهده في حكم الهند حينما طلب منه رموز جبهة الأحزاب اليسارية في 1996 تولي رئاسة الحكومة. والمعروف أن الراحل قرر في نوفمبر 2000 بمحض اختياره ترك السلطة كرئيس وزراء شيوعي منتخب ديمقراطياً لولاية "البنجال الغربية"، بل آثر بالتزامن أن يعتزل الحياة السياسية، واضعاً بذلك حداً لصفة التصقت باسمه هي "أقدم رؤساء الحكومات الشيوعية في العالم". وقتذاك أثار الحدث ضجة وردود أفعال متباينة، انطلاقاً مما كان للرجل من نفوذ وتاريخ وتأثير. فعلى مدى عقود في حقبة ما قبل الاستقلال كان "باسو" رمزاً وطنياً ومحرضاً جماهيرياً وطاقة تعبوية ومحارباً عنيداً من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، ثم صار في حقبة ما بعد الاستقلال إدارياً ناجحاً ومعارضاً شجاعاً ومشرعاً حكيماً وحزبياً قادراً على تكييف معتقداته الماركسية مع الواقع المحلي الهندي. وظل هكذا حتى في أوج ضعفه الجسدي والأيديولوجي الناجمين عن تقدمه في العمر، وعن انهيار الدولة الشيوعية الأم في موسكو، على التوالي. ويمكن القول إن ثقافته الواسعة وتجاربه الطويلة هي التي مكنته من تجاوز المصاعب دائما، فيما كان أصدقاؤه وخصومه يسقطون تباعاً. ويمكن القول أيضا إن غيابه اليوم عن المشهد السياسي لا يعني موت حزبه أو موت الشيوعية في الهند، لأن الأخيرة ليست حزباً برجوازياً أو وراثياً، وإنما حزب يؤمن بالأساليب الديمقراطية والاقتراع الحر في اختيار قياداته. وهذا ما ردده "باسو" بنفسه وقت اعتزاله، أي حينما كان حزب "بهاراتيا جاناتا" القومي اليميني يحكم الهند ويروج لانحسار "اليسار" فيها، حيث قال: "للذين يروجون لفكرة أن الشيوعية قد ماتت، فإن الذي مات هو تجارب معينة، وليس الشيوعية كفكر ومنهج. وكان هذا الكلام موجهاً أيضاً لحزب المؤتمر لأنه تعامل منذ فجر الاستقلال مع "باسو" كخصم لا يمكن الاتفاق معه إلا في جزئية صغيرة من سياساته، هي تلك المتعلقة بالتصدي لبرامج اليمينيين الهادفة إلى تحويل الهند إلى كيان أحادي الثقافة. في السيرة الذاتية للرجل، نجد أنه ولد لأسرة متوسطة الحال كان عائلها طبيباً من منطقة تقع حالياً في بنجلاديش. ونشأ ودرس في كلكتا قبل التحاقه في 1925 بكلية "سانت زيفيير" لدراسة القانون. وفي 1935 رحل إلى بريطانيا لمواصلة تعليمه العالي، حيث التحق هناك بجامعة لندن، متتلمذا على يد كبار فلاسفة الماركسية، الأمر الذي ساعده على التعرف على الأفكار الماركسية. تلك الأفكار التي عشقها فجعلته يؤجل عودته إلى الهند لمزاولة المحاماة. لكن ظروف الحرب العالمية الثانية غيرت خططه، فعاد الى بلاده في 1940 ليلتحق فورا بالحزب الشيوعي الهندي. وسرعان ما استطاع أن يلفت النظر إلى مواهبه القيادية والخطابية والتنظيمية، التي كان قد صقلها بالعمل في صفوف اتحادات الطلبة في لندن، فاختاره الشيوعيون الهنود في أول مؤتمر قانوني لهم في 1943 كممثل للحزب في البنجال. في 1944 وبطلب من حزبه أسس "باسو" أول نقابة لعمال سكة حديد البنغال – آسام. وحينما أجريت أول انتخابات تشريعية محلية في البنجال في 1946، خاضها "باسو" واستطاع فيها أن يلحق هزيمة نكراء بخصمه، مرشح حزب المؤتمر "همايون كبير". لكن الحزب الشيوعي الهندي تم حظره بعد ذلك، فلجأ إلى العمل السري الذي تخللته فترات من الاعتقال. في الخمسينات عاد اسم "باسو" ليدوي بين الجماهير كمحرض وقائد للمظاهرات الشعبية، كمظاهرات 1953 المنددة بارتفاع الأسعار، ومظاهرات 1954 لتحسين أجور المعلمين، ومظاهرات 1956 ضد مشروع دمج ولايتي البنجال وبيهار. أما أول عهده بدخول البرلمان المركزي فيعود إلى سنة 1953 التي أرخت لأول انتخابات عامة في الهند المستقلة، حيث نجح في انتزاع مقعد عن دائرة كلكتا، من الإقطاعي "روي تشودري" مرشح حزب "المؤتمر". ومنذ عام 1967 الذي وضع حدا لانفراد حزب المؤتمر بحكم "البنجال الغربية"، وبالتالي اضطراره للدخول في تحالفات سياسية لإدارتها، ظل الحزب الشيوعي الهندي الماركسي بقيادة "باسو" رقماً صعباً في جميع التحالفات، إلى أن جاءت انتخابات 1977 التي استطاع فيها الرجل وحلفاؤه "اليساريون" أن يحققوا أغلبية برلمانية مريحة. ومذاك، وعلى مدى 23 سنة، احتفظ بالسلطة المحلية دون انقطاع. وأثناء هذه الحقبة، عمل "باسو" على تحسين مستوى معيشة مواطنيه مع التمسك بالديمقراطية وسلطة القانون، حتى قيل إنه لو لم يقم بأي إنجاز لكفاه بروز ولايته كأكثر الولايات الهندية خلواً من الفساد السياسي. ويذكر البنجاليون له بالعرفان ما أحدثه من إصلاحات ريفية، كان لها الفضل في تحسين الإنتاج الزراعي، بدليل تحقيق ولايتهم في الثمانينات والتسعينات لمعدلات نمو زراعي عالية ضمن 17 ولاية من ولايات الهند الأكثر سكانًا، وبدليل بروزها مع "كيرالا" كأكثر الولايات لجهة تراجع معدلات الفقر والأمية في الأرياف. كما استطاع الراحل أن يجعل من ولايته نموذجاً للاستقرار (لم تحدث فيها مصادمات طائفية مماثلة لما وقع في ولايات أخرى بسبب حادثتي اغتيال السيدة غاندي في 1984، وهدم مسجد بابري في 1992)، ونموذجاً للديمقراطية اللامركزية (دشن مشروعا للديمقراطية اللامركزية، فأجريت انتخابات على مستوى جميع المجالس المحلية كل خمس سنوات منذ 1978، كانت أغلبية المقاعد فيها دوماً من نصيب المحرومين من المال والنفوذ، مما أثبت نزاهة أساليب الفوز). وكان هذا سبباً في قيام المشرعين الهنود بتبني التجربة وتعميمها. نجح "باسو" أيضاً في إخراج ولايته نسبياً من عثراتها الصناعية عبر فتح أبوابها منذ 1994 للاستثمارات الأجنبية، لكنه توخى الحذر كي لا تتأثر مصالح الفقراء بسلبيات الانفتاح.