هيأت "نظرية التطور" الداروينية، وما رافقها من جدل علمي وديني حادّين، المجال لزيادة الاهتمام بعلوم التنقيب والتاريخ و"الأنثربولوجيا" أو علم أجناس البشر... وتاريخ البشرية غير المكتوب! وصارت الجبال والأنهار والكهوف مسارح لاكتشافات "حاسمة" تقلب موازين الأحياء وتعيد ترتيب ظهور الحيوان بأنواعه والبشر بسلالاتهم في مختلف المناطق. وقد نشط في هذا المجال الدانماركيون المولعون بجمع الآثار، وركزوا على القبور المبعثرة فوق أرض بلادهم. وكان للعلماء الفرنسيين فضل اكتشاف أهمية الكهوف كسجل لحياة البشر الأوائل. ويقول "السير آرثر كيث" في تحليل طريف لدور الكهوف، المهم أن سكانها من أجدادنا الأوائل، لم يكونوا لحسن الحظ ممن يعنون بالنظافة، "فلم يكنسوا قط أرض هذه الكهوف، ولذلك تكدست تحت أقدامهم فضلات ولائمهم ورماد نارهم، والمهجور من مواقدهم والمطروح من أدواتهم والضائع من حُليِّهم. وكانت الأتربة تهب عند فوهة الكهف وتسقط من السقف قطع الصخور أو رذاذ من الماء المحمل بالأملاح الجيرية، وهكذا يرتفع قاع الكهف تدريجياً حتى يصبح تحت مواطئ سكانه عشرة أقدام أو خمسة عشر قدماً، وقد تصل أحياناً إلى الثلاثين، من مختلف الطبقات تمثل كل منها سجلاً تاريخياً طال عليه القِدِم، أضف إلى ذلك أن سكان هذه الكهوف كثيراً ما كانوا يدفنون موتاهم في أرض مساكنهم". وكان الدانماركيون قد ميزوا بين عصور الحجارة والبرونز والحديد. وسرعان ما أدرك علماء الآثار الفرنسيون أن كهوف بلادهم ترجع بتاريخ الإنسان إلى أبعد مما ترجع به أقدم القبور الإسكندنافية. ووجد الفرنسيون في طبقات كهوفهم أدوات حجرية من نوع يختلف كل الاختلاف عما عُثر عليه في الدانمارك. وفيها عظام حفرية لحيوانات متنوعة انقرضت من فرنسا منذ زمن طويل.. وهكذا ظهرت في إنجلترا على يد "اللورد Avebury مصطلحات مثل "العصر الحجري الحديث" Neolithic ... وهكذا امتد علمنا بالتاريخ إلى ما وراء مصر وبابل. وكشف معول المنقِّب عن حقيقة أنه عندما كان ينشأ نمط في إقليم ما، كان سرعان ما ينتشر تدريجياً، ثم يعقبه نمط آخر وهكذا. ولما كانت الأنهار تتلوى في وديانها وتنحت من طبقات الشاطئ، كانت تستعر في قيعانها كذلك أشياء من تاريخ الإنسان. وهكذا تم العثور في أودية الأنهار الأوروبية على بقايا من عظام "إنسان هيدلبرج"، وكل الذي عثرنا عليه منه هو فكَّه الأسفل، وكان فوق الطبقة التي استقر فيها هذا الفك ثمانية وسبعون قدماً من طبقات رسوبية أخرى. واستطاع العلماء أن يستخلصوا من هذا الفك معلومات ثمنية عن شكل الجمجمة وتطور الأسنان وغير ذلك. وفي إنجلترا اكتشف محام هاو في مجال دراسة طبقات الأرض، بقايا جمجمة "إنسان بلتدون" Piltdown Man، حيث أعيد تركيبها ودراستها. وفي عام 1981 اكتشف طبيب هولندي في جزيرة جاوة، عظام ما يسمى بـ"الإنسان القردي الجاوي"، وكان يعتقد أنه الكائن الحي الذي طال الحديث عنه في الأوساط العلمية، وحلقة الانتقال الحقيقية، أو "الحلقة المفقودة" بين الإنسان والقرد. سلطت بحوث التطور الأضواء كذلك على القرود، وبخاصة "البتراء" التي لا ذيل لها، وإن كان لها بقايا عًصعُص! وهذه أربعة أنواع، هي الجيبون والأورانج في آسيا، والشمبانزي والغوريلا في أفريقيا. ويورد "سلامة موسى" في كتابه "نظرية التطور وأصل الإنسان" معلومات طريفة عن هذه القرود الوثيقة الصلة بالإنسان. و"الجيبون"، يقول، أقلها رقياً إذا اعتبرنا المعنى الإنساني لهذه اللفظة، وهو أيضاً أصغرها جسماً، ثم هو إذا وقف كما يقف الإنسان مست أطراف يديه الأرض، لطول ذراعيه، فهما الأطول في العالم. وليس له ذنب، ورأسه ووجهه كلاهما يشبه رأس الإنسان، و"تنبعث من عينيه السوداوين نظرة هدوء ليس فيها تلك المسحة الكاريكاتورية التي نراها في القردة الدنيا". وتقول الموسوعات إنه يتنقل بين الأشجار بسرعة وخفة، ويمشي على الأرض منتصب القامة، ويعيش في تجمعات وهو وحيد الزوجة. وتشبه حنجرته حنجرة الإنسان، وله صوت عال ولكنه أبعد "القردة العليا" منا من حيث المشابهة في هيئة الجسم ومزاج النفس والخلق. ويعيش في جزر سومطرا وملقا وبورنيو بأندونيسيا، قرد آخر يدعى الـ"أورانج أوتان"، وهو يشبه الإنسان في صغره، يقول سلامة موسى، أكثر مما يشبهه عندما يتقدم في السن. فأطفاله تكاد تكون أطفالاً بشرية تتدلل على صدر حاملها وتضحك وتبكي. ولفظة "أورانج أوتان" تعني في لغة أهل بورنيو "إنسان الغابات"، وهم يعتقدون أنه يمكنه أن يتكلم ولكنه يتعمد الصمت خشية أن يستخدمه الإنسان ويسترقّه. وبعض الهولنديين في المستعمرات يقتنون صغار الأورانج لتلعب مع أطفالهم. والأورانج ضخم الجثة كبير البطن ووجهه خلو من الشعر عليه مسحة من الكآبة، وللذكر دون الأنثى خدود كثيفة تجعل الوجه عريضاً كأنه إنسان صيني. وليس للأورانج ذقن كما للإنسان، ولا فرق بين أذنه وأذن الإنسان، وظهر يده قليل الشعر، ورأس طفل "الأورانج" يشبه رأس الإنسان ووجه طفله يشبه الوجه الصيني بين الناس، وعدد أضلاعه يساوي أضلاع الإنسان والعمود الفقري يتقوس على شكل العمود الفقري في الإنسان... وإناث القردة تحيض مثل أنثى الإنسان، وهذا بخلاف إناث سائر الحيوان التي لا تحيض أبداً. ثم ينتقل "سلامة موسى" في حديثه عن القردة العليا وخصائصها الجسدية ومدى قربها أو بعدها عن الإنسان، فيقف أولاً عند الشمبانزي ثم الغوريلا من قردة أفريقيا. ويقول عن مزاج الشمبانزي إنه لا يتغير إذا أسَنَّ. وهو مفراح لعوب فيه شيء من الخبث. والغوريلا هي أكبر القردة العليا جسماً، وهو يحمل غصن الأشجار ويضرب بها عدوه أحياناً ولكنه يعتمد في الأكثر على قوة ذراعه التي تكفي لطمة واحدة منه لأن تقتل إنساناً. وهو يعيش فيما يشبه النظام العائلي، فإذا جاء الليل انحدر من الشجرة ونام على أصلها كي يحرس الأنثى وأولادها في عشهم على الشجرة. وفي علاقة الغوريلا بأنثاه وبالشيوخ المسنة من نوعه ما يشبه الاحترام والوقار، وهو يفهم معنى الانتقام ويغير على منازل الزنوج الذين يؤذونه. أما "السيد آرثر كيث"، الذي أشرنا إلى الفصل الذي كتبه عن تطور الإنسان في موسوعة "تاريخ العالم"، القاهرة - مكتبة النهضة، فيرى أن للغوريلا أهمية خاصة لدارس نشوء الإنسان وارتقائه تفوق أهمية غيره من "القردة البشرية" الحية، فهو أضخمها وأقواها، وهي أكثرها وحشية وأشدها عناداً وأوفرها استقلالاً وقلما تطول حياتها في الحبس، وهي كثيرة الأكل كبيرة المعدة. وإذا ما وازنّا بين الإنسان الحديث والغوريلا، وجدنا أن التطور قد سار بهما في طريقين متضادين، فقد سار بالغوريلا في طريق القوة، فهو يعتمد على القوة الحيوانية وحدها، بها يحصل على طعامه ويحتفظ بسلامته، أما الإنسان فقد اتجه في تطوره ناحية المخ، فهو يعتمد على ذكائه في الحصول على طعامه والدفاع عن نفسه. ورحم أنثى القرد البشري كرحم المرأة في شكله سواء بسواء، وتمر أجنتها بمراحل تشبه أجنة الإنسان. وهذه القردة التي تسمى عادة بالرئيسات Primates، ومنها الغوريلا والجيبون والشمبانزي والأورانج أوتان، لها كلها عصعص، وهو بقايا ذيل مطموس. وطفل الإنسان، يلاحظ سلامة موسى، يولد مثل سائر أطفال الحيوانات الثديية (اللبون) وذراعاه تساوي في الطول ساقيه، فإذا شب زاد طول ساقيه عن ذراعيه، ولكن القردة العليا بعكس ذلك. وقد فقدنا الشعر على أجسامنا بسبب اهتدائنا إلى النار والسكنى في الكهوف من أزمان بعيدة، جعلتنا عرضة للحرِّ المرهق وللموت حرقاً لو كانت شعورنا باقية تكسو أجسامنا. ولا يزال أثر المناخ واضحاً فينا. فإن الزنجي الذي يعيش حول خط الاستواء أملط، بخلاف الأوروبي الذي لا يزال الشعر يكسو جسمه، والفيل الأفريقي أملط وكذلك الجاموس في حين أن الحيوانات القطبية تكتسي بفراء وفيرة. ومثل هذه المقارنات بين الإنسان والقردة العليا لا تزال كثيرة لا مجال لعرضها، ولكن بقي الآن أن نتساءل: ما رأي العلم الحديث في نظرية التطور؟ وكيف تلقاها العالم الإسلامي والمسيحي؟