نما القطاع المالي الأميركي وازداد ثقة في النفس بشكل مفرط؛ غير أن هذا النمو المبالغ فيه، والذي يعد أكبر مما هو مرغوب فيه، لم يساهم كثيرا في الاقتصاد الحقيقي خلال العقدين الماضيين، كما يرى بعض الاقتصاديين. وفي هذا الإطار تقول "آن لي"، أستاذة المالية بجامعة نيويورك، إنه "يزيد من صعوبة نجاح الاقتصاد العام". فقبل الأزمة المالية التي ألمت بالولايات المتحدة، ثم من بعدها بالعالم أجمع، كان جزء كبير جدا من "وول ستريت" قد تحول إلى ما يشبه "كازينو" ضخم، حيث يحصد المتعاملون الماليون أرباحا طائلة على حساب المستثمرين، مثل صناديق المعاشات وصناديق الاستثمار... إلخ. وبدلا من الاكتفاء بأخذ ودائع الموفِّرين المصرفية وإقراضها للشركات من أجل نشاط إنتاجي، كانت الشركات المالية تخلق تريليونات الدولارات من الأوراق المالية المتداعية (مشتقات مالية) التي كانت توفر عائدات كبيرة لمكافأة من يدفعون بها في الأسواق، أو ما تقول "لي" إنه نحو "مئة تريليون دولار من النشاط الذي لا قيمة له". وبحلول أواخر عقد التسعينيات، كان إجمالي الاقتراض من قبل القطاع المالي قد بلغ مستوى مرتفعا بالمعايير التاريخية: ما يعادل 54 في المئة من الناتج الداخلي الخام (إنتاج البلاد من الخدمات والسلع). وبحلول عام 2007، ارتفع الاقتراض إلى 117 في المئة من الناتج الداخلي الخام، كما تقول "جين داريستا"، الخبيرة في "معهد بحوث الاقتصاد السياسي" التابع لجامعة ماساتشوسيتس في أمهرست. ثم سرعان ما انهار المنزل المالي المصنوع من الورق، إذ تقول داريستا: "كان لدينا إقبال كبير على القطاع المالي من قبل القطاع المالي". ومثلما أن المودعين قد يسحبون أموالهم على نحو مفاجئ، إن انتابهم الذعر وخشوا تعثر مصارفهم، فإن شركات "وول سترتيت" لم تعد تثق في بعضها بعضا. كما أن الكثير من الاستثمارات السيئة لم تكن تظهر على ميزانيات المؤسسات المالية، وكانت سجلاتها غامضة وفضفاضة. والواقع أن شيئا مماثلا حدث في بريطانيا، حيث كان بعض نمو القطاع المالي وهمياً، حسب ميرفين كينج، محافظ بنك انجلترا، والذي دعا، على غرار الرئيس السابق لـ"الاحتياطي الفدرالي" (البنك المركزي الأميركي) بول فولكر والرئيس باراك أوباما، إلى تقسيم البنوك الكبيرة إلى بنوك أصغر حجما، حيث يرى كينج أنه يتعين على هذه البنوك أن تفصل أجنحتها المصرفية العاملة في المضاربة والاستثمار عاليي الخطورة عن الشركات والمشاريع التي تتلقى الودائع المضمونة من قبل الحكومة. وتوافق "لي" على هذا المقترح، لكنها لا تعتقد أن الضريبة التي تقترحها إدارة أوباما كفيلة بحمل القطاع على تقسيم مؤسساته الضخمة إلى مؤسسات متوسطة على نحو كاف، حيث ترغب الإدارة الحالية في فرض ضريبة 0.15 في المئة على ديون تكتل الشركات المالية، بدون احتساب ودائعها. وتعليقا على هذا الموضوع تقول "لي"، إنها "طريقة بالكاد تكفي لإصلاح مواطن الخلل من الناحية الهيكلية". كما ترى أن إشارات أوباما إلى النظام المالي ضمن خطابه حول حالة الاتحاد الشهر الماضي، إنما ترقى إلى "الكثير من الكلام الفارغ"، ثم تضيف الخبيرة المالية متسائلة: "أين هي التفاصيل؟". إلى ذلك، تريد المسؤولة السابقة في أحد صناديق التحوط من المنظِّمين أن يضعوا حدا لنفوذ البنوك الاستثمارية. إذ بدلا من أن تكون قادرة على الاقتراض واستثمار ضعف رأسمالها بـ30 أو 40 مرة، ينبغي أن يكون ذلك محصورا ربما في ضعف رأسمالها بـ12 مرة فقط، كما تقول. غير أنها تشدد على أن فرض قواعد وتنظيمات أشد وأكثر صرامة على البنوك الأميركية، ليس من شأنه أن يعرِّض موقفها التنافسي على الصعيد الدولي للخطر. فالصين على سبيل المثال، تقول "لي"، تفصل النشاط المصرفي التجاري عن النشاط المصرفي الاستثماري، مثلما حدث (نظريا) في الولايات المتحدة حتى إلغاء قانون جلاس- ستيجل في عام 1999. وبشكل عام، يجادل المدافعون عن" وول ستريت" بأنه لا بد من بعض المضاربة من أجل توفير "سيولة" السوق، أو ما يكفي من البائعين والمشترين لتحريك كميات كبيرة من الأسهم والسندات بسرعة حين تلقي أحد الطلبات. ومن جانبهم، يميل المحافظون، الحذرون من مزيد من التقنين والتنظيم، إلى تأييد الوضع القائم أيضا. غير أن "لي" تقول إن البنوك الأميركية الخمسة التي يقال إنها "أكبر من أن تفشل"، تتوفر على كم كبير جداً من طلبات البيع والشراء، لدرجة أن المتعاملين فيها يتوفرون على امتياز غير عادل من حيث المعلومات في السوق. أي بعبارة أخرى، ليس ثمة ما يكفي من المنافسة. ديفيد آر. فرانسيس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محلل اقتصادي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"