عندما تولى هنري بولسون وزارة المالية الأميركية في يوليو 2006، لم يكن يتوقع ما تفاجأ به الجميع بعد عامين، أي اندلاع أسوأ أزمة مالية تشهدها الولايات المتحدة والعالم بأسره منذ الكساد العظيم في عشرينيات القرن الماضي. لكن وقع المفاجأة والطريقة التي تعامل بها مع الانهيار المالي وإفلاس الشركات والبنوك، سرعان ما تبدت للجميع بأخطائها الكثيرة، وبتردد صناع القرار في واشنطن الذي فاقمته الصراعات السياسية... هذه الأخطاء وغيرها يوثقها وزير المالية الأميركي السابق، هنري بولسون، في كتابه "على شفير الهاوية: نظرة داخل السباق لوقف انهيار النظام المالي العالمي"، والذي نعرضه هنا بإيجاز. فقد أوقع بولسون عندما جاء إلى الوزارة في عهد الرئيس بوش قادماً إليها من "جولدمان ساكس" التي كان يرأسها، انطباعاً إيجابياً في الأوساط المالية التي رحبت بخبر تعيينه على رأس المالية، لانتمائه إلى وول سترتيت، ولمعرفته بتفاصيل عمل الشركات وتعاملاتها في السوق المالية. غير أن شهر العسل الذي جمعه مع الدوائر المالية ومدراء الشركات، سرعان ما انتهى بعدما بدأت أولى بوادر الأزمة المالية في الظهور من خلال تعثر مؤسسات مالية كبرى مثل "بير ستيرنز" و"ليمان براذرز"، وهي الأزمة التي يقص علينا وزير المالية كيف تعامل معها والعقبات التي واجهته، سواء تلك الناتجة عن طبيعة السياسة الأميركية الداخلية، أو تردد الدول الأجنبية في التنسيق لحل الأزمة وتجنب أسوأ تداعياتها. وفي هذا الإطار يعترف بولسون أن السبب الرئيسي لإخفاقه في إنقاذ ليمان براذرز بعدما أظهر تعثره الواضح وكشف عن ثغراته المالية، يرجع إلى فشله في قراءة الرد البريطاني. فقد كان بولسون، ومعه المسؤولون الأميركيون، يعتقدون أن بنك "باركليز" البريطاني سيتدخل لشراء ليمان براذرز، وكانت هناك مفاوضات جارية بين فرع البنك في أميركا ومقره الرئيس في لندن. وبينما اعتقد الجميع أن الصفقة ناجزة، فوجئ بولسون بمكالمة هاتفية من نظيره البريطاني، أليستير دارلينج، يؤكد فيها رفض بريطانيا شراء البنك الأميركي المعسر، معللا ذلك بأن دافعي الضرائب البريطانيين لن يسددوا ثمن أخطاء البنوك الأميركية وإفلاسها. والغريب حسب بولسون أنهم في أميركا لم يقرؤوا جيداً التحفظات البريطانية وتعاملوا معها على أنها نوع من التردد سرعان ما سيفضي إلى إبرام الصفقة معتمداً في هذا التأويل على تصريح سابق لوزير المالية البريطانية قال فيه لبولسون: "أريدك أن تعرف بأن لدينا بعض المخاوف، لأن بنوكنا نفسها تواجه مشاكل ولا نريدها أن تضعف أكثر". هذا التصريح اعتبره الأميركيون مجرد تخوف بسيط لا يؤشر إلى الرفض الذي جاء صادماً للأميركيين، لكن الخلل في إنقاذ البنوك المتعثرة والبطء الذي تميزت به عملية التدخل الحكومي في البداية، إنما ترجع إلى المناخ السياسي في واشنطن، فقد تزامنت الأزمة مع السنة الأخيرة لولاية بوش وانطلاق الحملة الانتخابية مع احتدام الصراع السياسي وتنافس المرشحين على تسجيل نقاط على حساب خصومهم، وهو ما عطل خطة بولسون في بدء الإنقاذ وضخ الأموال الفدرالية في النظام المالي المتداعي. ولتوضيح التخبط السياسي في واشنطن، يضعنا الكاتب في أجواء الصراع الذي كان محتدماً والضعف الكبير الذي أبان عنه بوش في نهاية ولايته الثانية، إذ خلافاً للصورة التي تشكلت حوله في حملاته العسكرية واستخدامه للقوة في حل المشاكل الدولية، فضل بوش تفويض البحث عن حل للأزمة المالية في بدايتها إلى رئيس الاحتياطي الفدرالي، بين بيرنانكي، بل حتى إلى المرشح الجمهوري جون ماكين. فقد قطع هذا الأخير حملته الانتخابية ورجع إلى واشنطن للنظر في مسألة الأزمة، حيث حصل على إذن من بوش لبحث سبل الخروج من الأزمة، فدعا منافسه الديمقراطي، أوباما الذي عرف كيف يستفيد من تدخل ماكين الدعائي، بأن اتهمه بعدم القدرة على التعامل مع موضوعين في نفس الوقت. كما أنه وأثناء القمة التي عُقدت في واشنطن فاجأ أوباما ماكين عندما طالبه بتوضيح وجهة نظره حول الأزمة المالية، وطرَح تصوره للخروج منها. يقول بولسون في كتابه: "ران صمت ثقيل على القاعة وتحولت الأنظار إلى ماكين الذي كان يحمل في يديه دفتراً صغيراً، حيث جاء رده خارج السياق تماماً، وفيما كان يتحدث بعيداً عن الموضوع كنت أستطيع أن أسمع أوباما وهو يكتم ضحكته". وبالطبع كان لتلك القمة دور كبير في تعزيز حظوظ أوباما وفي ترجيح كفته في استطلاعات الرأي التي كانت حتى تلك الفترة متقاربة. ويبدو أن بولسون كان مقيداً بإكراهات النظام السياسي الأميركي الذي تجسد في رفض الكونجرس تسخير الأموال الحكومية لإنقاذ المؤسسات المعرضة للإفلاس، خوفاً من التداعيات السياسية وتوظيفها من قبل الخصوم في غير صالحهم، حيث اعترض الكونجرس في البداية على "برنامج إنقاذ الأصول المتعثرة" الذي اقترحه بولسون، لكن عندما جاءت ردة فعل الأسواق المالية عنيفة لدرجة تهدد بتداعي النظام المالي وضرب الاقتصاد، اضطر مجلسا الكونجرس لتمرير خطة الإنقاذ لتفادي الأسوأ. زهير الكساب -------- الكتاب: على شفير الهاوية: نظرة داخل السباق لوقف انهيار النظام المالي العالمي المؤلف: هنري بولسون الناشر: بيزنيس بلاس تاريخ النشر: 2009