لم تتمكن تجليات الروح المتسامحة والعقلية الحضارية المنفتحة التي ظهرت في فجر التاريخ الإسلامي ثم عند بعض حركات التنوير العقلي لاحقاً، من التغلب على روح "الملك العضوض" ومشروع "الدولة -القبيلة" الذي ظهر لاحقاً كذلك في تاريخ الإسلام. وقد نتجت عن ذلك المشروع الذي أسسته روح القهر وعقلية التغلّب في عالمنا العربي والإسلامي، مجموعة من التأثيرات والتجليات، مثل: بناء دولة الفرد وليس دولة الأمة، الإخفاق في إقامة علاقات قانونية وطبيعية متوازنة بين الفرد والسلطة، الهزائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ضعف إمكانيات الإصلاح والتطوير. والسؤال المطروح الآن: طالما أن إمكانيات التغيير وآفاق الإصلاح السياسي العربي الراهن، منعدمة إلى حد كبير، أليس من الأجدى الاشتغال على بناء ثقافة الإصلاح والوعي الوطني المسؤول بين الناس، أي إعادة الاعتبار لمفهوم حب الوطن وتعميق الحس الوطني المسؤول؟! لقد تغير الإنسان العربي سلباً من حيث طبيعة استجابته للعمل الوطني، وأضحى -نتيجة هيمنة قرون طويلة من الاستبداد- مستنكفاً عن ممارسة السياسة وضعيف الصلة والارتباط بمعايير الفعل الوطني، وبالتالي غير قادر على التأثير في السياسات القائمة. ولعل الذي يعيق المسيرة عن التقدم في هذا الاتجاه حالياً، يتمثل في جملة مسببات خاصة وعامة... ففي المجال الأول يمكن العثور في كثير من زوايا ثقافتنا الدينية والاجتماعية الموروثة على مفاهيم ترسخت وباتت تعاند قيم الدين الحقيقية على مستوى المعنى والتطبيق. وهذا النوع من اللاتوافق الثقافي ولّد في داخل الأفراد نوعاً من التناقض اللامنظور بين الأعراف والقيم، ثم بين الواقع الخارجي المختلف عن تصورات الذات الفردية. وهذا بحد ذاته يؤثر سلباً على حركية الفرد، ويعطل عنده حركة العقل والتفكير والإبداع، ويحوله إلى مجرد آلة منفعلة غير فاعلة. وبالتالي لا نستطيع أن نحمل النخب الحاكمة وحدها كامل المسؤولية عن هذا الصعيد. من هنا تأتي مسؤولية المثقف في أن يقوم بدور حامل المصباح الدال على طريق الخلاص، وذلك من خلال عمله على تنوير الرأي العام بكل ما من شأنه أن يساهم في بناء الوعي الفعال لدى أفراد الأمة، لمواجهة ثقافة القطيع والإمعية وتفكيك العقليات التي تسببت في إفشال التنمية وإعاقة التقدم، وتصحيح المفاهيم الخاطئة حول السلطة، والمساهمة الفعالة في تمكين الأمة من ممارسة حق النقد البناء، ومواجهة محاولات تزييف الوعي بالحياة والواقع. بهذا الوعي يمكن بناء نهضة حقيقية تسعى إلى التنوير والإصلاح، وتقوم أساساً على فهم الدين فهماً صحيحاً يتوافق مع العقل الحاضر، ويكون لعنصري الزمان والمكان حضوراً أساسياً في مجمل اجتهاداته وتأويلاته. وبما يتناقض كلياً مع ما نراه ونعاينه في عالمنا العربي والإسلامي حالياً، من انتشار للشعوذة والعادات والتقاليد والخرافة والأساطير، واعتبارها من صلب رسالة الإسلام، وهي ليست من الدين في شيء. إن النهضة تقوم وتنبثق من خلال وجود رؤى فكرية للواقع القائم مع أفعال وإجراءات ميدانية لاستدراك سلبياته وبناء مواقعه المستقبلية. والمثقف هنا تكون وظيفته مثل الطبيب، وعليه واجب تشخيص العلة، وهي واضحة ويمكن التعبير عنها مجدداً من حيث أنها أزمة ثقافية ومعرفية قبل أي شيء آخر. وبمقدار ما يكون تشخيص أسباب المرض عميقاً وصحيحاً، بمقدار ما يكون وصف الدواء المناسب سهلاً وناجحاً، وبمقدار ما يكون الشفاء منه أمراً ممكناً. ------- نبيل علي صالح كاتب سوري ------- ينشر بترتيب خاص مع مشروع "منبر الحرية"