أخذت "بارك تشون يونج" تستعيد ذكرياتها في هذه البلدة التي تصفها بـ"المكان الملعون"، وهي تتحسس ما بقي من قدمها التي بترت بسبب لغم أرضي هنا. ورغم أن هذه البلدة تقع في المنطقة الفاصلة بين الكوريتين فإن أرضها تحوي الموت لسكانها حيث زُرعت فيها أعداد لا حصر لها من الألغام الأرضية التي سببت خسائر بشرية فادحة. فمثلا هذه الأرملة البائسة، الضئيلة الجسم، البالغة من العمر 84 عاماً، فقدت أيضا اثنين من أبنائها، وأحد أحفادها بسبب الألغام الأرضية، بينما كانوا يمارسون أعمالهم في الغابات الواقعة خارج البلدة. ومنذ أربعة عقود كانت "بارك" نفسها قد داست على لغم أرضي في أحد الحقول، مما تسبب في بتر جزء من قدمها، وإصابتها بعرج دائم، رغم إجرائها جراحة لتثبيت طرف اصطناعي بديل. وهذا الطرف الاصطناعي يسبب لها آلاما أثناء المشي وتورما في الساق. "لقد تقدم بي العمر وذبلت ساقي وأصبح الجلد يتهدل منها"، قالت "بارك" ذلك وهي تكفكف دموعها عندما راحت تتذكر الآلام التي مرت بها والأحزان التي خلفها ذلك الحادث، فرت جانباً من القصة وهي ممدة على سرير متداع في كوخها الذي لا تصد جدرانه غائلة برد الشتاء القارس. وهذه القرية الحدودية المنعزلة، والبالغ عدد سكانها 1400 نسمة التي تعتمد على الزراعة ولا تبعد سوى نصف ميل عن المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين... تضم كثيرين ممن فقدوا أجزاء من أعضائهم أو أعضاءً بكاملها. ويقول المسؤولون إن هناك عشرات آلاف الألغام الأرضية لا تزال مطمورة تحت أراضي هذه البلدة وغيرها من البلدات الواقعة في محيط أحد الأودية الرائعة التي تشكل أشجار "السندر" سياجا له. والذي يمثل تذكارا قاسيا للحرب الشرسة التي اندلعت في شبه الجزيرة الكورية خلال خمسينيات القرن الماضي (1950ـ53). الكثير من سكان المنطقة يعتبرون أن المآسي التي ارتبطت بتلك الحرب لم تنته بعد. فمنذ عام 1953، وهو العام الذي انتهت فيه الحرب، سقط العديد من سكان المنطقة قتلى أو جرحى، كما فقد كثيرون منهم أجزاء من أياديهم أو أرجلهم، ما جعل القرية تبدو كمعرض كبير للُعرج والمبتورة أعضاؤهم. ويقدر نشطاء مكافحة الألغام أن 1000 شخص على الأقل، غالبيتهم من الفقراء غير المتعلمين ممن يعيشون في المناطق الممتدة بجوار المنطقة المنزوعة السلاح والتي يبلغ طول حدودها 151 ميلا، كانوا ضحايا لانفجار الألغام الأرضية. ومما يفاقم الخطر أن بعض تلك الألغام مصمم بحيث ينفجر مرتين؛ مرة عندما يخطو أحد فوقه ومرة أخرى عندما تتطاير شظاياه في الجو مما يؤدي إلى زيادة عدد، ودرجة خطورة، الإصابات الناتجة عنه. وفي منطقة "هايين" بكوريا الجنوبية، لم يخلّف ذلك الإرث من حرب الخمسينيات سوى قدر كبير من المرارة. ومما يفاقم هذه المرارة أن المسؤولين الكوريين الجنوبيين يرفضون غالبا التعليق على التقارير التي تتناول هذا الموضوع. وفي الحالات القليلة التي يوافقون فيها يكتفون بالقول إنهم يوفرون العناية العاجلة للمصابين جراء انفجار تلك الألغام وكذلك العلاج اللاحق. والشيء الذي يبعث على الانزعاج الشديد أن بعض هؤلاء المسؤولين يصرون على أن تلك الألغام تمثل أداة ضرورية لأنها تلعب دورا دفاعيا في المواجهة المستمرة مع كوريا الشمالية. أما الضحايا فيقولون من جانبهم إن الحكومة الكورية الجنوبية، قد تخلت عنهم ولم تقدم تعويضا إلا فيما ندر لإصاباتهم. والأسوأ من ذلك في نظرهم أن بعضهم يتعرض لمعاملة خشنة بل ويتم في كثير من الأحيان توبيخهم واتهامهم بأنهم السبب في الإصابات التي تعرضوا لها جراء انفجار الألغام بسبب عدم توخيهم الحذر على الرغم من التحذيرات العديدة التي تصدرها السلطات في هذا الشأن. وتقول "بارك" إنه كان المفترض أن تقتل هذه الألغام العدو، "لكنها أصبحت تقتل أناسا أبرياء... ولست أدري كيف يوجه المسؤولون الحكوميون اللوم لنا؟ ولماذا لم يقوموا بتطهير هذه المناطق من الألغام الموجودة بعد انتهاء الحرب". يقول الخبراء إن شبه الجزيرة الكورية تعتبر من أكثر المناطق التي تحتوى على ألغام أرضية في العالم. وأن الجانبين، الكوري الجنوبي والكوري الشمالي، هما من زرع تلك الألغام أثناء الحرب التي نشبت بينهما في الماضي. ونظرا لأن تلك الحرب لم تنته إلى نتيجة حاسمة ولم تؤد إلى حل الخلافات بين الكوريتين، فإن كل طرف منهما ترك تلك الألغام في مكانها كوسيلة دفاعية ضد الطرف الآخر، مما جعل السكان المدنيين الأبرياء يدفعون الثمن. وتقول السلطات الكورية الجنوبية إن هناك مشكلات عديدة تكتنف حل مشكلة الألغام؛ من ضمنها أنه لا توجد سجلات كاملة أو خرائط دقيقة توضح الأماكن التي زُرعت فيها تلك الألغام. وأن ذلك هو الذي أدى إلى إبطاء جهود إزالتها، لدرجة أن الألغام التي أُزيلت خلال الفترة من 2006 إلى 2008 لم تزد عن 11.570 لغما في حين يقدر العدد الإجمالي للألغام هناك بما لا يقل عن 1.2 مليون لغم. ------- جون جليونا هايين ـ كوريا الجنوبية -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"