في بداية مايو 2005، أثار المسيحيون الفلسطينيون ("ملح" الأرض المقدسة و"سكّر" الشعب الفلسطيني) بالتعاون مع مسلمين فلسطينيين، ضجة كبرى انتهت بقرار المجمع المقدس في الكنيسة الأرثوذكسية إقالة بطريرك الروم الأرثوذكس أرينوس الأول المتهم بقضية بيع ممتلكات تعود للكنيسة بالقدس الشرقية لمستثمرين يهود استعماريين (استيطانيين)، وهو ما كشفته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية في 18 مارس 2005. وهذا، لا يعني أن معركة "رعايا" الكنيسة العرب كانت الأولى أو الأخيرة ضد ما أسماه عديدون ("الاستعمار الديني اليوناني"). وليس متوقعا أن ينجح هؤلاء "الرعايا" العرب سريعا في تغيير الواقع المرير المستمر منذ القرن السادس عشر، وفي وقف استنزاف الرهبان اليونان لممتلكاتهم وأوقافهم ووجودهم في الأراضي المقدسة. ووفقا للسجلات الرسمية، تمتلك الكنيسة نحو 18في المئة من مساحة القدس الغربية و17 في المئة من القدس الشرقية ونحو 3 في المئة من مساحة اللد والرملة ويافا وحيفا، وقوامها الأراضي والأديرة التي لم تمسها سلطات الاحتلال (بعد!) ومعظمها فارغة لكنها في مناطق حساسة، لذلك قيمتها المادية والاستراتيجية كبيرة. وعلى الدوام تجدد مؤسسات وشخصيات مسيحية أرثوذكسية، أردنية وفلسطينية (وعربية)، اتهامها واحتجاجها على الكنيسة الأرثوذكسية بالتفريط بأوقافها ومقدساتها في القدس وغيرها لصالح شركات وأشخاص يهود. وإزاء ما يؤكد لنا استمرار البطريرك ثيوفيلوس في رفض التعهدات التي قطعها أمام السلطة الوطنية الفلسطينية عشية انتخابه، والمتمثلة أساسا في تنفيذ القانون الأردني (رقم 24 لسنة 1958)... تجددت مطالبات المسيحيين الأرثوذكس في الأردن وفلسطين بضرورة إشراكهم في إدارة شؤون الكنيسة المقدسية التي ينتمون إليها، خاصة وأن البطريرك لم يلتزم، حتى تاريخه، بقانون بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية الذي يفرض على البطريرك إنشاء "مجلس مختلط" يرأسه البطريرك نفسه وعدد أعضائه 8 تكون العضوية فيه مناصفة بين العرب واليونان للإشراف على أملاك البطريركية الأرثوذكسية في القدس، وترسيم مطارنة من العرب. بل إن "الكنيسة المقدسية" لا تسمح للعربي، مهما بلغت درجة علمه وأهليته في كادر الكنيسة، أن يصبح مطرانا خلافا للقانون الأردني الذي يحكمها، فضلا عن التزامها وقف وإبطال صفقات الأراضي التي عقدتها البطريركية خلال العقود الماضية. ومع الكشف عن قضية بيع 71 دونما بقسيمة رقم 30288 من أوقاف الطائفة الأرثوذكسية المحاذية والمكملة لأرض "دير مار الياس"، بين القدس الشرقية وبيت لحم وبيت صفافا، تعالت الأصوات محذرة من مخطط لعزل القدس العربية عن بيت لحم لفرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني في المفاوضات النهائية، حيث تقع هذه المنطقة على امتداد لمستعمرة (مستوطنة) جبل أبو غنيم التي تفصل بين بيت ساحور الفلسطينية والقدس العربية، أي أن ما يحدث هو تسريب ممنهج لأملاك البطريركية، يستهدف عمليا إتمام الحزام الاستعماري (الاستيطاني) حول القدس ومنع تواصلها مع المدن الفلسطينية المجاورة. وفي ظل استمرار المطالبات بإلزام البطريرك بتنفيذ الالتزامات التي تعهد بها قبل انتخابه للسلطة الفلسطينية والحكومة الأردنية وخصوصا بالمحافظة على الأوقاف وعدم بيعها وتسريبها للمستعمرين... يشير الوضع إلى بوادر انتفاضة جديدة من قبل رعية ثيوفوليس ضمن انتفاضات تاريخية تعادل عدد الانتفاضات في العمل السياسي الفلسطيني. فالموضوع، إذن، يمس المسيحيين ("ملح" الأرض الفلسطينية و"سكر" الشعب الفلسطيني) وبالتالي فإن الدفاع عن وجودهم له أهمية استراتيجية. وفي هذا السياق، أمكن رصد عدد من التيارات في الرعية التابعة للكنيسة: أولها "مع الواقف" (الانتهازي) المؤيد لأي بطريرك يملك الإمكانات لكنه، في النهاية تيار قيمته المعنوية والسياسية ضعيفة، كون قيادة الكنيسة اجتذبته بالمال لتمويه الحقائق وتزويرها دفاعا عن صفقات البيع والتهويد للأرض الفلسطينية. ويلبس هؤلاء اللباس الوطني لنشر الفكر اليوناني والبطش بالرعية العربية وكهنتها الوطنيين، متبعة سياسة تخدم مصالح إسرائيل. أما التيار الثاني، فهو نقيض الأول ويمكن وصفه بالتيار العدمي، المحلق في الفضاء، والذي لا يقرأ الوقائع والحقائق على الأرض. وهو تيار يضر أكثر مما يفيد. فيما التيار الثالث، الأقرب إلى الأول، هو تيار الوسطيين المفرطين في "المسالمة" ويغلب عليه شرفاء لكن من السذج الذين تميُّع الرخاوة مواقفهم. أما التيار الرابع الواقعي، لكن الإصلاحي بثبات، فهو من يجب دعمه حيث أنه يدرك ما يحدث على أرض الواقع لكنه لا يخضع له بل يسعى لتغييره، وهو الذي يرفع شعار التغيير دون تهاون، ودون ممارسة قفزات بهلوانية، بل بتجنب حرق المراحل. على الوطن ومصالحه لا تجوز المساومة، وعلى البطريرك -فيما يرى شرفاء إصلاحيون أشداء- الالتزام بتعهداته الموقعة بخط يده للحكومة الأردنية والسلطة الفلسطينية. وهؤلاء مؤمنون بأن مثل هذه الصفقات هي تفريط بأملاك الشعب الفلسطيني قانونيا، الأمر الذي يضع أي بطريرك تحت طائلة القانون الفلسطيني والأردني كونه يتمتع بالجنسية الأردنية وانتخب حسب القانون الأردني. فالفقرة الثانية من المادة السادسة تنص على "أن جميع الإجراءات التي يتخذها البطريرك في المجمع وجميع المسائل التي تعرض على البطريرك أو تنشأ أمامه، تُقرر بأكثرية أعضاء المجمع المقدس. وفي حالة تساوي الأصوات، يرجح الجانب الذي صوت فيه البطريرك". هذا فضلا عن الفقرة (أ) من المادة السابعة والعشرين التي تؤكد تنحية البطريرك والقائمقام البطركي إذا "أظهر عدم اكتراث أو اهتمام بعقائد الإيمان الأرثوذكسي". وهو ما يرى كثيرون أن البطريرك يفعله في نطاق بيع وتأجير أملاك الكنيسة! والحال كذلك، يجب توسيع التحرك الشعبي، ليس من قبل "الرعية" الأرثوذكسية فحسب، بل ومن باقي المسيحيين والمسلمين العرب وغير العرب... دفاعا عن أملاك البطريركية التي هي إرث وطني وجزء من الهوية الفلسطينية. كما أنه على السلطة الفلسطينية والحكومة الأردنية مساءلة البطريرك حول ما راج عنه من عدم التزامه بتعهداته، وعما يقذف به عهده من استمرار لحالة الفساد بالبطريركية الأرثوذكسية، ومن تنكر لحقوق العرب الأرثوذكس، واستمرار لمسلسل التفريط بالوقف الأرثوذكسي الذي هو إرث الآباء والأجداد الفلسطينيين.