لسنا هنا بصدد التأصيل، لأن ذلك في صالح "الحرية أولاً"، وأي تأخير لها عن المرتبة الأولى، يعني الإمعان في العبودية لأي ظرف كان. في نضالات الأمم والشعوب هناك قصص باهرة في حسم هذه المسألة لصالح "الحرية" بمفهومها الشامل ابتداء من المعتقد وانتهاء بالكلمة الظاهرة أو الصريحة بدرجاتها المتفاوتة. ولكن، منذ خلق الإنسان وتقادم العهود وتطور البشرية في أنظمتها المختلفة، أخذت "الحرية" مكانة نسبية في التشريعات والقوانين التي تحكم إيقاع الحياة العامة للناس. فكانت القيود والمحاذير هي الطوق الذي يسمح أو يحدد لهذا الإنسان "المجرد" نطاق حريته سواء كان ذلك في شؤونه الخاصة أو في انطلاقه مع البيئة المجتمعية التي لا يملك أحد اختراق جدرانها أو العيش خارجها إلا بانتهاء العمر الافتراضي للبشر. فكانت "الحرية" الحقيقية هي كبش الفداء كلما تحكمت أولويات الحراك المجتمعي العام في المطالبة بالحقوق مقابل الواجبات العامة التي لا تخلو منها رقبة أي إنسان وفي أي مكان وإن كان في زمن الطواطم وعبادة الأصنام. مع تطور المجتمعات وتقدمها نحو "الحرية" وقع البعض فريسة لها وخاصة من ظن أن السير نحو التقدم التقني أو المعلوماتي يعني بالضرورة الحصول على المزيد من "صكوك" الحرية في الحركة أو الكلمة. ومن هنا نلحظ انتقال دعاة "الحرية" وخاصة في العالم الثالث إلى التصنيف الجزئي لأنواع الحريات المطلوب تحقيقها في مجتمعاتهم لأن الأصل مفقود أو مبهم وغامض، ابتداء من حرية المرأة من المخبر إلى المظهر، إلى حرية اختيار الحاكم، وبين هذه وتلك هناك تفاصيل مزعجة للخريطة العامة لـ"الحرية"، فقد يدور صراع مرير حول أيهما أولى "الخبز" بمعنى لقمة العيش أم "الحرية" التي هي لدى البعض لا تطعم عيشاً، ثم يتم الانتقال في عالم شاسع من المساومات في سلم الأولويات اللامتناهية في العالم النامي "الحرية" أولاً أم الأمن والاستقرار، والحبل ماض على الجرار "الديمقراطية" بمعنى الحرية السياسية أم العدالة وهكذا دواليك يمضي بالأصل باحثاً عن مكان لاستقراره حتى نجد خلافات واسعة بين تيارات الفكر الإنساني من الراديكالية الصارخة في الأصولية التي تمنع المجتمع في هذا العصر من كل شيء له علاقة بمفهوم "الحرية" تحت بند "المحرمات" من الدين بالضرورة هكذا بالمطلق. وبالمقابل هناك تيار معاكس لهذا الاتجاه مضياً مع استحقاقات العصر في الانفتاح والحداثة والعولمة وغيرها من التغييرات التي نتأثر بها وإن كان البعض منكراً لها لخلفيات "رجعية" تعمي البصيرة قبل البصر. ووسط السجال بين الطرحين تضيع الحريات التي يراد القبض عليها كمن يقبض على الريح أو الجمر، فالنتيجة لا تختلف في النهاية بأن "الحرية" هي الموءودة التي سئلت ولم تجد محامياً ناجحاً للدفاع عن حقها في الحياة بشكل سلس كما عبر عنها الفاروق عمر بين الخطاب رضي الله عنه في مقولته التي ذهبت مضرباً للأمثال "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"؟ فالحرية أولاً ولدت هنا، ثم تأتي متعلقاتها، ولأن ما يحدث اليوم هو العكس فإن المعاناة لاستعادة المكانة اللائقة بها في ازدياد. فالحرية تعني نبذ كل أنواع الاستعباد مادية كانت أم معنوية وإلا تحولت إلى مسارات المذلة والمهانة ولو كانت تحت عنوان: "الخبر" مقدم على "الحرية".