بات واضحاً أن إسرائيل تواجه أزمة وجودية كبرى، فقد سدت بيدها كل الطرق التي تتيح لها أن تعيش وتنسجم مع محيطها العربي والفلسطيني بخاصة، وقد أتيحت لها فرص التعايش الآمن منذ أن قبل العرب بمشروع السلام بعد حرب أكتوبر 73، وكان مؤتمر مدريد الشهير للسلام فرصة نادرة ضيعتها إسرائيل، كما ضيعت فرصة إعلان العرب مبادرتهم للسلام في زمن الضعف العربي. وإسرائيل ترفض الحل العادل والشامل، ويساعدها على هذا الرفض أنها لا تجد من يعترض على حروبها أو يرفض سياساتها العدوانية، والعرب يجدون أوروبا مسؤولة أمامهم لأن الدول الغربية الكبرى هي التي بنت ترسانة الأسلحة المدمرة التي مكنت إسرائيل من العدوان، ويرون أن أوروبا التي ما تزال تقدم التعويضات الضخمة للإسرائيليين عن "الهولوكست" من حساب العرب، تقف موقفاً شبه عاجز عن تقديم موقف جاد على رغم ضخامة مصالحها مع العرب، وقد اكتفت بخريطة طريق ضاعت وضاع معها الطريق! والمشكلة أن صحوة الضمير الأوروبي اليوم على عمق الفاجعة التي تسببت بها بعض دول أوروبا الداعمة للصهيونية لا تتيح لها أن تتحرك بقوة مع تنامي النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة التي تعلن دعماً مطلقاً لإسرائيل والتزاماً عقائدياً بها، يصل إلى حد الرضوخ للسياسة الإسرائيلية. ولكن هذه الصحوة الغربية الكبرى التي تجلت بقوة بعد الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة، وبعد انتصار تقرير غولدستون، بدأت تشمل الغرب كله بما فيه المجتمع الأميركي. وقد فضحت أكاذيب إسرائيل التي قدمت نفسها لعقود طويلة على أنها تعيش حالة رعب وخوف لأنها محوطة بالعرب "المتوحشين"، وحلمها أن يبتلع البحر غزة كي تستريح، فقد ابتلع غزة الركام والدمار ولكنها بقيت حية لأنها صاحبة حق تدافع عنه دفاعاً جعل العالم ومجتمع الغرب يعيد النظر في مواقفه. وبالطبع كان السياسيون الضالعون في الغرب يعرفون حقيقة إسرائيل ولكنهم متآمرون معها عقائدياً ضد العرب و المسلمين وضد المسيحية الشرقية العريقة، وهذا ما جعلهم يشاركون إسرائيل علانية في حروبها ضد العرب، والغرب هو الذي مكن إسرائيل من تحقيق نصر كبير على العرب في يونيو 67، وأحسب أن بعض قادته لم يكونوا يتوقعون أن ينهض العرب من النكسة إلى حرب أكتوبر، وأن يستعيدوا قدرتهم على التضامن، فلما حدث هذا التضامن سارع الغرب إلى مساعدة إسرائيل على حرمان العرب من قطف ثمار انتصارهم في أكتوبر، فجاءت نتيجة العبور الكبير الذي أنجزته مصر اتفاقية سلام فردية سعت إليها بقوة الولايات المتحدة لتخرج مصر من ساحة المواجهة، ثم خرجت دول أخرى، وتحولت قضية العرب المركزية إلى قضية فلسطينية/ إسرائيلية محدودة المسؤولية، ولم يعد يستعمل مصطلح الصراع العربي/ الإسرائيلي إلا في بلدان عربية معينة، على رغم أن قمة الرباط 1974 التي اتخذ فيها قرار اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، أكدت في مطلع بيانها على كون فلسطين قضية العرب جميعاً ولا يجوز لأي طرف عربي أن يتنازل عن هذا الالتزام. وأعتقد أن الأجيال القادمة لن تفهم كيف ضيع العرب نتائج انتصارهم في حرب أكتوبر بدل أن يستثمروها لصالحهم، فقد دخلوا إلى قاعات مباحثات السلام فرادى حين تمزق الصف العربي، بل إن الصف الفلسطيني ذاته تمزق بعد متاهات "أوسلو"، وكنا في سوريا وما نزال نؤكد على أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب جميعاً وليس أحد منهم بمأمن من خطر المشروع الصهيوني، ونؤكد على أن الجولان، وهو أرضنا السورية المحتلة، ليس أغلى من القدس، ونحن نرفض أن نقف موقف المتفرج على معاناة أهلنا في فلسطين أو في جنوب لبنان، وكنا ندرك أن حديث إسرائيل عن السلام هو لكسب الوقت لصالحها ولتمكينها من تغيير الوقائع على الأرض.، وقد أكدت إسرائيل إصرارها على الاستمرار في الحروب حتى في ذروة إقبالها الشكلي على مفاوضات السلام، فقد جاءت مجزرة قانا عام 96 في مرحلة مفاوضات، كما جاء العدوان الأخير على غزة أيضاً في مرحلة مفاوضات، وبات واضحاً أن إسرائيل تخاف من السلام لأنه سيفرض عليها إعادة الأراضي التي احتلتها عام 67 بينما هي تخطط لاحتلال المزيد من الأراضي العربية وتسعى إلى توسيع رقعة الاستيطان في الأرض الفلسطينية التي تسميها يهوذا والسامرة، وقد تمكنت من تمزيق أرض فلسطين كلها بالاستيطان اغتصاباً ومن تهويد القدس وطرد البقية الباقية من سكانها إلى درجة أن من يدعمونها من الأوروبيين والأميركان ضاقوا بها، ولكنها تستهين بالجميع لدرجة جعلت البيت الأبيض يفقد مصداقية مضامين الخطابين الشهيرين اللذين ألقاهما أوباما في إسطنبول والقاهرة. لكن ما لم تستطع إسرائيل تحقيقه هو إنهاء الصراع أو حسمه لصالحها، فالصراع مستمر وسيكبر وسيكون صراعاً أبدياً بدليل استمرار المقاومة على رغم الظروف القاهرة التي تعيشها. وأعتقد أن التاريخ الإنساني كله لم يشهد مقاومة لأي عدوان على شعب استمرت أكثر من ستين عاماً وهي تزداد قوة ومنعة كما شهدت أرض فلسطين مقاومة دؤوبة متجلدة وصلت ذروة من الصبر والإصرار على الحق في حرب غزة، وأمام الحصار المحكم الخطير الذي ستعتبره الأجيال القادمة وصمة عار لا تمحى عن جبين قيادات المجتمع الدولي التي سمحت لإسرائيل أن تشن هذه الحرب الظالمة على غزة، وقد شكلت غزة مع المقاومة اللبنانية أزمة وجودية كبرى أمام إسرائيل، وقد ضاقت أمامها الخيارات، فهي تفكر بشن حرب جديدة واسعة المدى، وتريد زج أوروبا وأميركا في حروب جديدة كما زجتها في العراق، ولكن إسرائيل على رغم تهديداتها بالحرب تدرك اليوم أن الحروب المقبلة ستكون بالغة التكاليف بشرياً، وإذا كان العرب يتحملون كما تحمل العراق دماراً واستشهاد الملايين فإن إسرائيل التي ستواجه تدميراً ضخماً في المقابل لن تتحمل خسائر بشرية كما يتحمل العرب، ولا يغيب عن الإسرائيليين أن افتعال حرب جديدة ستكون له نتائج كارثية تدفع المنطقة كلها إلى التحول الكامل إلى ساحة مقاومة كبرى، وإلى ساحة فوضى ودمار، قد تكون خلاقة فعلاً بما ستحدثه على الأرض من بث رعب لا ينتهي عند الإسرائيليين حتى تزول دولة إسرائيل.