هناك أدوار متعددة لعبها المثقفون العرب منذ بداية النهضة العربية الحديثة حتى الآن. وأبرز هذه الأدوار تشخيص تخلف المجتمع العربي من الجوانب السياسية والاقتصادية والسياسية، واستنهاض همم الشعوب العربية عن طريق تطوير التعليم، وإنشاء الصحف، ورفع معدلات الوعي الجماهيري بأهمية السير في طريق النهضة الشاملة. وفي دور آخر مهم من أدوارهم ارتحل عدد من أبرز المثقفين العرب إلى أوروبا وعادوا وألفوا كتباً مهمة عن مشاهداتهم الميدانية، وعن تحليلهم لقيم الحضارة الغربية ومحاولاتهم لزرع بعضها في البيئة العربية. ولم يتخل المثقفون العرب في البلاد العربية المستعمرة عن خوض النضال الوطني، وتعبئة الجماهير وحشدها ضد الاستعمار والاحتلال. وحين حانت لحظة الاستقلال الوطني في الخمسينيات، اندفع المثقفون العرب للمشاركة في حكم بلادهم سواء عن طريق الإصلاح، أو بانتهاج أسلوب الانقلاب أو الثورة، وشارك مثقفون عرب عديدون ممن لم يدخلوا في أطر السلطة الحاكمة في الجهد العلمي والفكري، لرسم ملامح التنمية المستدامة والنهضة الشاملة للمجتمع العربي. غير أن المثقفين العرب واجهوا في مسيرتهم الطويلة تحديات متعددة حاولوا مجابهتها بطرق شتى وباجتهادات متنوعة. ولعل التحدي الأول تمثل في النزوع إلى اعتبار التخلف بكل أبعاده مرده إلى الاستعمار الأجنبي، مما أدى إلى تجاهل الأسباب الكامنة في صميم المجتمع العربي، والتي أدت إلى بلورة ظاهرة التخلف. ولعل أهم هذه الأسباب هو استمرار ميراث الاستبداد الذي عرفته الدولة الإسلامية عبر قرون متعددة في الدول العربية التي نالت استقلالها والتي تحول بعضها -على رغم الماضي شبه الليبرالي الذي عرفته- إلى دول شمولية أو سلطوية. كذلك لا يمكن تجاهل ارتفاع معدلات الأمية، مما أدى إلى انخفاض الوعي الاجتماعي لدى الجماهير العريضة، بالإضافة إلى تخلف نظم التعليم، واعتمادها على التلقين أساساً وليس على تربية العقل النقدي. وإذا أضفنا إلى ذلك تخلف البنى الاقتصادية، أدركنا أن إلقاء مسؤولية التخلف على عاتق الاستعمار الأجنبي، فيه محاولة للهروب من تحديد الأسباب الداخلية للتخلف. ولا يمكن من ناحية أخرى القول إن الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية الصعبة التي أحاطت بالمثقفين العرب حدت من قدرتهم على العطاء، وذلك لأن التحديات يمكن أن تخلق استجابات إبداعية. ومطالعة السجل التاريخي للأدوار المهمة التي لعبها المثقفون في المجتمعات الأوروبية منذ بداية النهضة وبزوغ عصر التنوير، وكذلك في المجتمعات الآسيوية كاليابان والصين، تشهد على أن الصعوبات والعقبات قد تكون في ذاتها حافزاً لإبداع المثقفين في مجال مواجهة مشكلات مجتمعهم. والمثقفون في مسعاهم الاجتماعي لا يحتاجون فقط إلى معرفة دقيقة بتاريخ بلادهم وتاريخ العالم، ولا بسمات الشخصية القومية السائدة، ولا بالسمات الأساسية للأنساق السياسية والاجتماعية لمجتمعهم، ولكنهم -بالإضافة إلى ذلك- في حاجة إلى تبني نسق متكامل من القيم، أبرزها الانتماء إلى الوطن، وتبني فكرة القومية العربية، وقبل ذلك كله قيمة الالتزام. فالمثقف الملتزم هو الذي يمكن أن يناضل بشكل منهجي ضد كل علامات التخلف، وهو الذي يجيد التعبير عن المصالح الأساسية للجماهير العريضة أياً كان توجهه الإيديولوجي. غير أننا في عصر العولمة شهدنا تحولات أساسية في مهمة المثقفين والأدوار التي صاروا يقومون بها. وأهم هذه المهام قاطبة هي القدرة على قراءة التحولات الأساسية في بنية النظام العالمي. وأبرز هذه التحولات كافة هو الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي الذي كان يقوم على مؤسسة السوق، إلى نموذج حضاري جديد هو مجتمع المعلومات العالمي، الذي يدور حول فضاء عام جديد تماماً في تاريخ الإنسانية، هو ما يطلق عليه الفضاء المعلوماتي Cyber Space. وبعبارة موجزة نحن نعيش في عصر العولمة بكل تجلياتها. والعولمة عملية تاريخية هي نتاج تراكمات شتى في المجتمع العالمي، أبرزها على الإطلاق الثورة العلمية والتكنولوجية، التي جعلت العلم مصدراً أساسياً من مصادر الإنتاج، والثورة الاتصالية الكبرى، التي تتمثل في البث الفضائي التلفزيوني وشبكة الإنترنت. ويمكننا -على رغم من الاختلافات الجسيمة حول تعريف العولمة وببيان ماهيتها الحقيقية- تعريفها إجرائياً بأنها "سرعة تدفق المعلومات والأفكار والسلع والخدمات ورؤوس الأموال والبشر من مكان إلى مكان آخر في العالم بغير حدود ولا قيود". وهكذا إذن أصبحنا في عصر العولمة نعيش في الزمن الواقعي Real Time، بمعنى أن سكان الكوكب جميعاً أصبحوا قادرين على متابعة الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية لحظة وقوعها، مما خلق نوعاً من أنواع الوعي الكوني، الذي هو ضرب جديد من ضروب الوعي، سيؤدي -على المدى الطويل- إلى تخليق ثقافة كونية. وإذا كان المثقفون العرب قد دخلوا في معارك إيديولوجية شتى دارت حول العولمة، حيث رفضها البعض منهم رفضاً مطلقاً باعتبارها صورة من صور الاستعمار الجديد، وقبلها آخرون باعتبارها مفتاح التقدم الاقتصادي، فإن المهمة الملقاة على عاتقهم اليوم بعد أن هدأت عواصف الجدل النظري، هي كيف يمكنهم أن يوجهوا مجتمعاتهم للتفاعل الخلاق مع العولمة، بهدف تقليل الخسائر وتعظيم المكاسب وفق رؤية استراتيجية بصيرة. ومما لاشك فيه أن العالم اليوم في عصر العولمة وبحكم تدفق المعلومات والأفكار والصور، قضى على انعزال بعض المجتمعات وبعدها عن التفاعل العالمي الخلاق. ومن هنا بات يقع على عاتق المثقفين العرب بعد أن انتهت المعركة الإيديولوجية الكبرى بين صراع الحضارات وحوار الثقافات، تهيئة المجتمعات العربية للتفاعل مع الآخر من منظور الندية المعرفية، وبدون تهويل أو تهوين. لقد شهدت الممارسات الفكرية في العقود الماضية لعدد من المفكرين العرب النظر إلى الآخر الغربي وكأنه يمثل قمة التقدم والرقي، ولذلك دعوا إلى احتذاء النموذج الحضاري الغربي بالكامل سياسة واقتصاداً وثقافة. وهم في هذا الاتجاه تجاهلوا الدراسة النقدية لمنطلقات وممارسات الحضارة الغربية، والتي تحفل بعديد من السلبيات، بالإضافة إلى إيجابياتها المشهودة. وهناك فريق آخر من المثقفين العرب هونوا بشدة من مكانة الحضارة الغربية بل إن بعضهم من ذوي الاتجاه الإسلامي المتشدد نعتوها بأنها حضارة ملحدة وكافرة وينبغي الحذر من تطبيقها، وفي قول آخر ينبغي شن الحرب عليها بلا هوادة! وكلا الموقفين يجافي النظرة الموضوعية للحضارة الغربية من ناحية، ويتجاهل النقد الذاتي للحضارة العربية الإسلامية من ناحية أخرى. والسؤال الآن: كيف نقيم التوازن بين النقد الذاتي المطلوب وبين نقد الآخر؟ هذه هي المهمة الأساسية للمثقفين العرب في عصر العولمة، حيث تقاربت المسافات وانضغط الزمن!