ثرية هي المناقشات التي أجريت في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس قبل أيام حول مستقبل الرأسمالية في ضوء الأزمة الكبرى الراهنة، وتطرقت إلى آفاق العولمة وأثر المخاوف التي أثارتها هذه الأزمة عليها. غير أنه ليس ثراؤها وحده هو الذي يلفت الانتباه، وإنما مضمونها أيضا. فقد تضمنت المناقشات نقدا قويا للحرية الاقتصادية المطلقة التي كانت موضع ثناء واحتفاء في هذا المنتدى على مدى تاريخه الذي يمتد لنحو أربعة عقود. لم يختلف المشهد في دافوس هذا العام؛ الأغنياء، دولا وشركات ومؤسسات وأفرادا، هم صفوة المنتدى ونجومه. والقوى الأكثر نفوذا في العالم هي التي تتصدر هذا المشهد الذي يطل على العالم من أعلى. لكن الذي اختلف هو الخطاب الذي أصبح أكثر حذرا في التعاطي مع قضايا الاقتصاد العالمي. خفت صوت الدفاع عن حرية السوق المطلقة التي حظيت طويلا بما يشبه القداسة، حيث كان أي تدخل للدولة يعتبر شرا ينبغي تجنبه. كان الولع شديدا بالسوق والثقة كاملة تقريبا في قدرتها على تصحيح نفسها، مثلما كان الشك عميقاً في دور الدولة الذي اختُزل في بيروقراطية تضعف الحافز الفردي وتقيد الاستثمار وتضع العقبات. لم يكن معتادا أن تتردد في جنبات هذا المنتدى عبارات مثل الرأسمالية المستغلة والعولمة غير المسؤولة. ولم يقتصر هذا النقد الذي لا سابق له على خبراء، وإنما جاء أهمه على لسان رؤساء دول أبرزهم الرئيس الفرنسي، ورئيسة سويسرا. ولم يكن خطاب مدير المنتدى ومؤسسه "كلاوس شواب" بعيدا عن هذا الموقف الذي اقتنع أصحابه أخيرا بأن دور الدولة ضروري لكبح جماح الانفلات الذي قد يترتب على تفاعلات السوق. ورغم أن المصارف والمؤسسات المالية الكبرى هي التي تعرضت للقسم الأكبر من النقد، فقد جاء الهجوم على انفلاتها في سياق مراجعة بدت تلقائية، لكنها عميقة لنظام اقتصادي وضع ثقته كلها في أدوات مالية ونقدية واقتصادية أساءت استغلال هذه الثقة. كان المعتاد أن يأتي هذا النقد من خصوم الحرية الاقتصادية والعولمة الذين يعتبرون "منتدى دافوس" قلعة لقوى الهيمنة والاستغلال. وقد أسس هؤلاء قبل نحو عشر سنوات منتدى مضادا أطلقوا عليه اسم المنتدى الاجتماعي العالمي. وقد رفع هذا المنتدى راية التمرد على النظام الاقتصادي المعولم والحرية الاقتصادية المطلقة، وإن كان كثير من أعضائه يرفضون حرية السوق بدرجاتها كافة. ولقي المنتدى الاجتماعي العالمي دعما من قادة بعض الدول التي ترفض حكوماتها العولمة أو تتحفظ على بعض جوانبها. ولم يكن شافيز المعروف بمواقفه الحادة ضد الغرب والسياسة الأميركية وحده الذي ساند هذا المنتدى، وإنما رؤساء معتدلون مثل رئيس البرازيل داسيلفا الذي وصف ذات يوم الاتجاه السائد في "منتدى دافوس" بأنه "يسمح لشعوب بالحصول على خمس وجبات طعام يوميا فيما لا تحصل شعوب أخرى إلا على وجبة واحدة كل خمسة أيام". وقد تعود داسيلفا على حضور اجتماعات المنتدى الاجتماعي العالمي السنوية التي تستضيفها مدينة بورتو اليغرى البرازيلية، ثم التوجه إلى دافوس للمشاركة في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يُعقد في الوقت نفسه كل عام. وهو يفسر ذلك بأنه ينقل إلى الكبار في دافوس آراء وانتقادات خصومهم الذين يلتقون في بورتو اليغرى ويتعاطف مع بعض توجهاتهم. غير أنه لم يمض وقت طويل حتى أخذت الأضواء التي سُلطت على المنتدى الاجتماعي العالمي في الانحسار، بالتوازي مع تراجع الحماس الذي ميز اجتماعاته الأولى التي تزامنت مع زخم التظاهرات ضد العولمة والتي كانت قد فرضت نفسها على جدول الأعمال العالمي منذ عام 1999 واستمرت قوية لسنوات عدة. فلم يقدم المنتدى الاجتماعي العالمي أكثر من موقف احتجاجي ضد الرأسمالية والعولمة، بلا رؤية واضحة ولا بدائل محددة. وهذا هو سلوك من يعرف ما لا يريد، لكنه لا يعرف ما يريده على وجه التحديد. وإذا كان تراجع هذا المنتدى وما اقترن به من نشاطات قد أثبت مجدداً أن الشعارات لا تكفي والعناوين العريضة لا تغني، فقد أظهر اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي في نهاية الشهر الماضي أن الرأسمالية العالمية مازالت قادرة على تصحيح نفسها واستخلاص الدروس من أزماتها، مثلما فعلت مرات من قبل في تاريخها. فليست هذه هي المرة الأولى التي يدرك فيها بعض أنصار النظام الرأسمالي أنه بحاجة إلى تصحيح. حدث ذلك من قبل وبدرجات. وكان التحول الأكبر في تاريخ هذا النظام نتيجة الأزمة الاقتصادية الكبرى التي ضربت العالم في أواخر عشرينيات القرن الماضي وسُميت أزمة الكساد الكبير. فقد فرضت هذه الأزمة تدخل الدولة بقوة عبر النظرية الكينزية التي ساهم تطبيقها في مواجهة أكبر كساد واجه الاقتصاد العالمي في العصر الحديث. لكن الليبرالية الجديدة جاءت بعد ذلك (بدءاً من ثمانينيات القرن نفسه) فوضعت حداً لدور الدولة وشككت فيه مجدداً، لكنها لم تتمكن من تغيير العمق الاجتماعي الذي كان النظام الرأسمالي قد اكتسبه من خلال تصحيح آخر لجأ إليه استجابة لتحدي الماركسية واتجه بموجبه إلى نموذج دولة الرفاهية التي قدمت ضمانات اجتماعية وتعويضات بطالة ورواتب تقاعد ومساعدات مدرسية وجامعية وتأمينا صحياً. وكان ذلك التصحيح هو الذي مكَّن الرأسمالية من تجديد نفسها وساهم في ازدهارها وأحبط نبوءة كارل ماركس الكبرى، وهي أن هذا النظام لابد أن ينهار تحت وطأة أزماته التي اعتقد أنها كامنة في بنيته ونتيجة ضرورية لأدائه الذي يقسم المجتمع إلى طبقة تزداد ثراء وأخرى يتفشى فيها الفقر. وإذا كانت الأزمة الكبرى الراهنة قد دقت ناقوس الإنذار مجدداً بشأن أداء النظام الرأسمالي، فقد بدا في مناقشات "منتدى دافوس" قبل أيام أن ثمة استعدادا للتصحيح. لكن فاعلية هذا الاستعداد الذي أبداه سياسيون كبار، أو ما يمكن تسميته "المؤسسة السياسية للرأسمالية"، تتوقف على مدى استجابة القوى المالية والاقتصادية التي اشتد انفلاتها في العقود الثلاثة الأخيرة على نحو أدى إلى جموح وصفه بعض خصوم الرأسمالية بالتوحش والافتراس. فقد أصبح لأقطاب القطاع المالي، وخصوصاً كبار المصرفيين، مصلحة في استمرار الانفلات الذي جعل مشتقات مالية جديدة قادرة على التلاعب بأصول اقتصادية يفترض أن تكون هي الأساس. وربما يكون صعباً تصحيح الاختلالات التي أدت إلى انفجار أسواق المال وصنعت الأزمة الكبرى الراهنة بدون تجاوب الماليين والمصرفيين الذين يقاومون هذا التصحيح ويرفعون شعار "إما الانتعاش أو الرقابة الحكومية"، مدعومين من أنصار الليبرالية الجديدة. وهكذا فرغم أن النظام الرأسمالي نجح في تصحيح نفسه مرات من قبل، يبدو الوضع هذه المرة مختلفاً لأن مقاومة التصحيح من داخل هذا النظام تبدو أقوى وتتسلح بأدوات العولمة التي تمنحها إمكانات لا يستهان بها. لذلك يظل السؤال عن تصحيح الرأسمالية لنفسها مجدداً بلا جواب حاسم رغم الإشارات الإيجابية القوية التي جاءت من دافوس.