الحية التي لا تغير جلدها تهلك، هذا ما قاله الفيلسوف نيتشه، وقال برترند رسل: لست مستعدا أن أموت في سبيل أفكاري لأنها تتغير. أما علي الوردي، عالم الاجتماع العراقي، يعتبر الأفكار تتبدل وفق الظروف المعاشة، مقدماً لنا أمثلة كثيرة تجسد تغير الأفكار والمعتقدات، حيث الفكر سيال وغير جامد، يتطور ويتبدل. وإذا كان هذا هو الاعتقاد، فهل يعني أن المفكر عندما تتغير أفكاره يتراجع أم يتقدم؟ كما لدينا أمثلة تعبر عن تغير الأفكار، لدينا أمثلة تاريخية لمن مات لأجل أفكاره ومعتقداته، فهل هؤلاء بلهاء أم أنهم ماتوا دفاعاً عن قناعات ثابتة؟ ما دفعني للكتابة هو التغير في المواقف الفكرية للمفكرين العرب، حيث تعيش ساحتنا العربية حالة انهزام يصفها البعض بأنها حالة مخاض، والاختلاف ليس في الإيمان بتغير الفكر والأفكار، بل في إنتاج فكر واقعي يلامس الواقع العربي ويقدم لنا فهما جديدا للمتغيرات التي يعيشها عالمنا العربي. لا غرابة في أن نمر بمراحل اهتزاز وتخبط وغياب رؤية، سواء على مستوى الدول أو القوى المدنية، لأن التشخيص هو نتاج للفوضى العارمة التي يعيها عالمنا العربي. حاول بعض العلماء العرب تقديم رؤى لتفسير التخبط وحالة العجز، وكان معظم ما قدموا تكراراً لنظريات غربية نعتبرها نتاجاً لواقع مغاير. وهنا ظهرت لدينا الأزمة إذ لم يكن تشخيصنا واقعياً ومعبراً عن طبيعة الواقع العربي والتغيرات الاجتماعية التي عاشها. وما يلفت الانتباه هو أن التحولات الفكرية قادها المفكرون العرب، ومنهم مثلا محمد عابد الجابري الذي اعتنق الماركسية في تفسير للواقع العربي، ثم تحول إلى الرؤية الإسلامية، وبدأت هذه التحولات في الثمانينيات حيث دعا إلى استئناف النهوض وفق منطلقات إسلامية. وأثار تحوله ردود فعل واسعة بين المفكرين، فمنهم من أدان ومنهم من أيد. البعض اعتبر هذا التحول تنازلا يعبر عن انتهازية سياسية، حيث قال طيب تيزيني: "الجابري تنصل من كل ما كان يعتقد، وبطريقة غير منهجية، لقد كان ماركسياً وفجأة أعلن أن الماركسية غريبة عن الفكر العربي". ويقال إن علي عبدالرازق الذي قدم لنا كتابه "الإسلام وأصول الحكم" عام 1924، والذي كان محتواه يصب في فصل الدين عن الدولة، قد ندم على ذلك الكتاب، كما يذكر الدكتور محمد عمارة في كتابه "نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام"، حيث يقول إن نجله (محمد علي عبدالرازق) شهد أمامه بأن أباه قبل وفاته عام 1970 كان ينوي أن يؤلف كتاباً ينكر فيه كل ما تبناه من أفكار مضادة مناهضة للإسلام، لكن الموت لم يمهله. وفي السياق ذاته فقد كان عمّارة نفسه قد تبنى الماركسية وعذب وسجن إبان فترة حكم عبدالناصر، وعندما خرج من السجن تحول وتخلى عن أفكاره الماركسية وتبنى الفكرة الإسلامية وتحول إلى مدافع عنها. هذه التحولات الفكرية يعتبر البعض أنها استجابة طبيعية للواقع العربي، وأن التراجع لا يمثل نكوصا بقدر ما هو تعبير واقعي عن طبيعة الوضع العربي الذي هو بحاجة إلى تشخيص واقعي وعلمي يعبر عن الخصوصية الخاصة بمجتمعاتنا. ونلاحظ بأن النكوص أو التراجع ليس بالضرورة تراجعاً وتخليا عن الفكر بقدر ما هو استجابة طبيعية للواقع المعاش ومحاولة لتفسيره وفق رؤية تحمل الخصوصية الإسلامية والعربية. وبصرف النظر عن هذه التحولات الفكرية والأمثلة التاريخية، نجد أن المعاناة مازالت معاشة، وأن تشخيصنا مازال غير ناضج وأننا بحاجة إلى جهود ضخمة تشخص واقعنا العربي.