في زيارتي لصنعاء (مقالة الأسبوع الماضي) لاحظت أشياء كثيرة. لاحظت أن ما يقال خارج اليمن عن تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية، وعن قرب انهيار الدولة لا وجود له بين الناس هنا. تبدو الأمور في العاصمة هادئة. ليس هناك شعور بترقب كارثة على الأبواب، أو التوجس من خروج الأوضاع عن السيطرة. على العكس، تسير الحياة هناك بشكل عادي جدا: الازدحام في الشوارع، والأسواق تنبض حيوية بالناس وبالسلع. ليس هناك حالة طوارئ، أو تسابق على التموين تحسبا لطارئ. هناك مشاكل تعصف بالبلد، والكل يملك رأيا حول ما يحدث. لكن اللافت أن القلق أو التوجس الذي يصيبك عندما تقرأ عن اليمن خارج اليمن هذه الأيام، لا وجود له داخل العاصمة. التقيت كثيرين هناك، وحضرت مناقشات كثيرة، بما في ذلك جلسات "مقيل" (جلسات تناول القات)، ولم يحدث أن أحداً تطرق إلى مستقبل البلاد بما يوحي بأن الخطر على الأبواب. هناك دائما مساحة واسعة من النقد الحاد أحيانا لسياسات السلطة، والفساد المستشري في مفاصلها، لكن الحديث في مجمله لم يخرج عن ما أصبح خطابا عاديا في كثير من العواصم العربية. هذا لا يعني أن الوضع في اليمن لا ينذر بمخاطر من نوع ما. ولا يعني أن اليمنيين لا يدركون ذلك. لكن يبدو أن إدراكهم هذا يتضاعف عندما يأتي الحديث على ضرورة مساعدة اليمن اقتصاديا لتمكينه من الخروج من أزمته، وإلا فإن مخاطرها سوف تطال الجيران قبل غيرهم. والحقيقة التي ربما لم يلحظها البعض، هي أن اليمن لم يتجاوز حالة عدم الاستقرار السياسي منذ 1948، السنة التي شهدت أول محاولة انقلاب على الإمامة فيما كان يعرف باليمن الشمالي آنذاك، وحتى الآن. يبدو وكأن حالة عدم الاستقرار، مشفوعة بتدهور الحالة الاقتصادية، أصبحت حالة مزمنة تفرض ضرورة التكيف معها، بقدر ما تفرض التفكير في الخروج منها. وهذا يعني أن من يتحدثون عن اليمن في الخارج يفعلون ذلك على خلفية ما يحدث في أفغانستان، والعراق، والصومال، وليس على خلفية الحالة اليمنية ذاتها. لاحظت شيئاً آخر لم أعرفه من قبل. الأذان الشائع للصلاة في العاصمة ليس ما يعرف بأذان أهل البيت، حيث يتبع المؤذن قوله "حي على الفلاح" بـ"حيا على خير العمل"، بل الآذان على الطريقة السنية. كانت إقامتي في فندق الشيراتون الذي يقع على تلة شرقي المدينة. كنت أقيم في الدور السابع. وعندما يحين وقت الأذان كنت أفتح نوافذ الغرفة للاستماع. وقد استمعت إلى مساجد عدة لم أعرف عددها على وجه التحديد. كلها تصدح بالأذان السني. سألت بعد ذلك بعضا من أهل المدينة ممن تشرفت بمعرفتهم ولقائهم عن هذا الموضوع. وكانت الإجابة دائما أنه ما لا يقل عن 70 في المئة من مساجد العاصمة لم تعد تستخدم أذان أهل البيت، أو الأذان الزيدي. وكان هذا لافتا بالنسبة لي لأن زيارتي لصنعاء هي الأولى، ولأن هذه المدينة العريقة هي أحد أهم معاقل الزيدية في اليمن بعد محافظة صعدة. الأمر الذي يشير إلى أن تغيرا حصل خلال السنوات الأخيرة للثقافة الدينية في المجتمع اليمني. هل يتضمن هذا التغير تراجعا للمذهب الزيدي أمام المذاهب السنية الأخرى، كما يوحي بذلك تغير الأذان؟ لعل في هذا السؤال شيئا من المغالطة لسبيين: الأول الإجماع على أن الزيدية هي أقرب المذاهب الشيعية إلى أهل السنة، بحيث يقال بأن الزيدية هم الشيعة عند السنة، وهم في الوقت نفسه السنة عند الشيعة. والسبب الثاني، خاصية تدل على مرونة واضحة في الزيدية، وبالتالي فالتغير الذي يشير إليه تراجع الأذان الزيدي لم يحصل حصريا بالضرورة من خارج هذه المدرسة، كما لم يفرض عليها قسرا. ولعل التغير حصل من داخل المدرسة، وذلك بسبب مرونتها وقابليتها للتغير. والحقيقة أن التغير المشار إليه يتجاوز الأذان إلى ماهو أعظم من ذلك بكثير، ويتعلق بالقضية المركزية، وهي مسألة الإمامة، ومن له الحق فيها، وبالتعبير الحديث "الدولة"، وشرعية السلطة السياسية فيها. وهو تغير بدأ مع "الثورة"، عام 1962، على الإمامة، واستبدالها بالنظام الجمهوري. والشاهد هنا قدرة الزيدية على استيعاب مثل هذا التحول إلى درجة أن المرجع الزيدي، بدر الدين الحوثي، في حديث له مع صحيفة "الوسط" اليمنية، لم يجد ما يجيب به على السؤال عن إمكانية التوفيق بين دستور الجمهورية وبين موقفه بحصر الإمامة في البطنين إلا بكلام مرتبك. التغير يطال إذن قضية الإمامة، وهي نقطة الخلاف الرئيسية بين الزيدية وأهل السنة. ورغم كل ما قيل عن الموضوع، يبدو أن هذا الخلاف غير مستحكم: فالزيدية وأهل السنة يجمعون على حصر الخلافة أو الإمامة في قريش، وتختلف الزيدية في حصر الإمامة فيما يعرف عندهم بـ"البطنين"، أي ذرية الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب. لكن حتى هذا المبدأ المركزي ظل عرضة للتعديل والتبديل على أيدي كبار العلماء الزيود عبر التاريخ. ومن ثم، ورغم شرط البطنين، فإن الزيدية تقر شرعية خلافة أبي بكر وعمر. الأكثر من ذلك، وحسب المصادر الزيدية، أن الإمام نشوان بن سعيد الحميري (ق6هـ) يرى جواز تولي الإمامة من ليس قرشيا أو حتى فاطميا. وهو في ذلك حسب الدكتور المرتضى المحطوري، يعتمد رأي العالم المعتزلي، ابن سيار النظام، بأن الإمامة هي لأكرم الخلق وخيرهم عند الله. وينقل المحطوري عن نشوان قوله: "وهذا المذهب الذي ذهب إليه النظام هو أقرب الوجوه إلى العدل، وأبعدها عن المحاباة". وفي العصر الحديث يبرز الإمام الشوكاني الذي يعتقد بأن الفاطمية هي خير بطون قريش، إلا أنه في الوقت نفسه يرى صحة الإمامة في سائر بطون قريش، ومن ثم يتفق في ذلك مع الرأي السائد عند أهل السنة. من هذا تتضح درجة المرونة العالية التي تتميز بها الزيدية عن غيرها من الفرق الشيعية. وهي مرونة تعود على الأرجح إلى مرتكزاتها التأسيسية الأولى من حيث أنها تستند في مسألة الأصول أو العقيدة إلى المعتزلة، وفي الفروع أو المسائل الفقهية إلى مدرسة أبي حنيفة النعمان. ومن المعروف أن المعتزلة والحنفية كلاهما معا تمثلان ذروة الاتجاه العقلاني عند السنة. من هنا يبدو أن اعتبار الزيدية مذهبا شيعيا فيه شيء من الارتباك، وربما المغالطة. فهي تتفق مع الإثني عشرية في تفضيل علي في مسألة الإمامة، لكنها لا تعتبر هذا التفضيل شرطا لصحة إيمان المسلم، وذلك لأنها تعتمد أيضا مبدأ "جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل". وبالتالي فموقف الزيدية من مسألة الإمامة هو موقف سياسي بامتياز، وليس موقفا عقديا يتحدد على أساسه إيمان المسلم. وكان الأستاذ في جامعة صنعاء عبدالله الشماحي محقا عندما ذكر بأن الزيدية تعتبر التشيع الأول لعلي تشيعا سياسيا مقيدا بظرفه الزمني، ولا يحمل طابعا دينيا. وبالتالي فإن التحول الذي يشي به تغير الأذان في صنعاء حصل من داخل المذهب نفسه، وبآلياته الفكرية. فالزيدية أقل المذاهب الإسلامية تمسكا بالمذهبية، وتبدو وكأنها تيار، أو مدرسة فكرية سياسية أكثر منها مذهبا عقديا منغلقا، كما هو شأن المذهب الإثني عشري.