في الثاني من الشهر الجاري أكد رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي في جلسة استماع أمام الكونجرس أهمية الجهود المبذولة للتواصل مع حركة "طالبان" الأفغانية "باعتبارها ركناً أساسياً لإنجاح الاستراتيجية الأميركية الجديدة في أفغانستان". ولم يأت هذا التصريح من فراغ بطبيعة الحال، ولعل واحداً من أهم التصريحات التي كشفت عن هذا النهج هو ما صرح به وزير الدفاع الأميركي نفسه في الثاني والعشرين من الشهر الماضي بقوله إن حركة "طالبان" تشكل "جزءاً من النسيج السياسي في أفغانستان في هذه المرحلة". وكان واضحاً أن ثمة توافقاً بين الإدارة الأميركية وحلفائها في هذا الصدد، فالرئيس الأفغاني أعد خطة للمصالحة مع "طالبان"، وباكستان تبارك هذه المصالحة، ولاشك أن حلفاء "الناتو" مسرورون أيضاً بهذا التوجه. وتثير هذه التصريحات والمؤشرات عدداً من الملاحظات المهمة، فهي تمثل امتداداً -أو لعله فشل- لمحاولة السياسة الأميركية تكرار تجربة مجالس الصحوات في العراق، كما تعني أن الإدارة الأميركية قد اكتشفت أن الاستراتيجية الجديدة التي أعلنها أوباما بخصوص أفغانستان، والتي اعتمدت أساساً على إرسال 30 ألف مقاتل أميركي إضافي لتعزيز القتال ضد حركة "طالبان"، لا يمكنها أن تنجح دون مضمون سياسي، وأنها أقنعت كافة حلفائها بذلك، أي أن حلفاءها هم الذين ضغطوا عليها في هذا الاتجاه. ومن الواضح أن التفسير المباشر لهذا التغير في التوجه الأميركي مبني على معطيات واقعية، أي على ما تشهده الساحة في أفغانستان من إخفاق أميركي أطلسي واضح في حسم المسألة الأفغانية عسكرياً، وهو وهْم سيطر على الإدارة الأميركية إبان عهد بوش، وبالذات في أعقاب ضرب أفغانستان واحتلالها وإسقاط نظام حكم "طالبان" على أساس أن هذا النظام اعتبر شريكاً في أحداث 11 سبتمبر 2001 لإيوائه قيادات تنظيم "القاعدة"، ولكن الأمور تطورت على النحو المعروف للجميع، والذي استأنفت فيه "طالبان" عملياتها العسكرية ضد قوات الاحتلال، واستطاعت أن تنزل في إطارها خسائر بهذه القوات، وأن تستعيد وجودها في مناطق شاسعة من أفغانستان. ومن عجب أن الرئيس الأميركي الحالي قد شدد في حملته الانتخابية الرئاسية على التفرقة بين الحرب الأميركية في العراق ونظيرتها في أفغانستان، واعتبر أن الأولى كانت حرب "اختيار" أما الثانية فهي حرب "اضطرار"، ومن ثم بدأ يسعى للخروج من الورطة التي أدخله فيها سلفه على أساس التخلص من الالتزام العسكري الأميركي في العراق تدريجياً مع تقدم العملية السياسية فيه، والتركيز عسكرياً على أفغانستان، وهو البديل الذي لم تظهر له أية بوادر نجاح، بل لقد أصبح واضحاً -كما سبقت الإشارة- أن قدرة "طالبان" في تصاعد، ومن هنا ضرورة "تعديل" السياسات. ويؤكد التحليل السابق أن زعيم جماعة إسلامية باكستانية يحظى بثقة حركة "طالبان" الأفغانية قد ذكر أن الولايات المتحدة أدركت الصيف الماضي صعوبة الانتصار عسكرياً على هذه الحركة "ما جعلها تطلق مساعي لإيجاد تفاهم معها يضمن خروج القوات الأميركية والأجنبية من أفغانستان في مقابل إشراك طالبان في نظام سياسي يضمها إلى الحكومة وباقي القوى السياسية". وتبدو عملية استيعاب "طالبان" مع ذلك ليست سهلة ، فهي ما زالت أولاً في بدايتها، وهي تقتضي من وجهة النظر الأميركية تمييزاً بين "أشرار" حركة "طالبان" و"أخيارها" حتى لا تحاور الولايات المتحدة العناصر الأكثر تطرفاً في أفغانستان، الذين وصفتهم وزيرة الخارجية الأميركية بـ"الأشرار فعلاً". غير أن اليد الواحدة لا تصفق، فلكي ينجح نهج كهذا لابد أن تستجيب له "طالبان"، وثمة مؤشرات قوية على أن هذه الأخيرة غير راغبة بالمشاركة في الحكم، أولاً لأنه من غير الوارد أن تميز "طالبان" داخل صفوفها بين "أشرار" و"خيار" في وقت يرتفع فيه نجمها بهم جميعاً، وثانياً لأنه ليس من الضروري أن تقبل الشروط الأميركية الأخرى كما أوضح الزعيم الإسلامي الباكستاني الذي سبق أن نقلنا عنه، والذي صرح بأن "طالبان" قد رفضت العرض الأميركي، وقدمت اقتراحات أخرى لم تحظ بموافقة الأميركيين. وكشف عن أن العرض الأميركي ركز على منح طالبان ثلاثة أرباع الحكومة الأفغانية المقبلة، مع تعهد بانسحاب كل القوات الأجنبية من أفغانستان، في مقابل تسمية واشنطن باقي وزراء الحكومة الأفغانية، واختيارها المناصب المدنية، وهو ما رفضته الحركة التي طلبت وضع الأميركيين لائحة بأسماء مئات من الشخصيات الأفغانية تختار منها طالبان شركاءها في الحكومة، كما عارضت أي عودة لنظام الأحزاب أو العمل السياسي وفق المفاهيم الديمقراطية الغربية، وهو ما لم تقبله واشنطن. وأشار الزعيم الباكستاني إلى أن مستقبل علاقة "طالبان" بتنظيم "القاعدة" شكل عقدة في المفاوضات الأميركية مع "طالبان"، إذ سعت واشنطن إلى انتزاع تعهد من "طالبان" بمنع أي نشاط لـ"القاعدة" والمقاتلين الأوزبك وغيرهم على أرض أفغانستان فيما أصرت "طالبان" على حصر التعهد بضمان سلامة القوات الأجنبية لدى مغادرتها البلاد، شرط عدم تنفيذها نشاطات عسكرية حتى موعد خروجها، وعدم السماح لأي شخص باستخدام الأراضي الأفغانية للإساءة إلى دولة أخرى في مقابل عدم تدخل المجتمع الدولي في الشؤون الداخلية لأفغانستان. وأغلب الظن أن "طالبان" قد تفرض شروطها بالتدريج بحكم التحولات العسكرية والسياسية التي تحققها على أرض الواقع. لكن ما يهمنا هو هذا النموذج الذي شهد تغيراً جذرياً في السياسة الأميركية تجاه حركة كانت تصنفها باعتبارها من أخطر الحركات الإرهابية في العالم، ذلك أن لدينا هنا في وطننا العربي وضعاً مماثلاً، فالولايات المتحدة ما زالت تصر على أن "حماس" حركة إرهابية، وهي لا تراها بعد "جزءاً من النسيج الفلسطيني"، ولا تتصورها شريكاً في السلطة الفلسطينية، وبالعكس فهي تفرض الحصار اللاإنساني على قطاع غزة الذي تسيطر عليه الحركة، فهل سألنا أنفسنا عن السبب في هذه "المعايير المزدوجة"؟ لاشك أن الإجابة ببساطة تعود إلى أنهم في "طالبان" يواصلون إثبات وجودهم سياسياً، أما نحن فما زلنا نتصور أن التهدئة والمفاوضات وحدها يمكن أن تأتيانا بالفرج، فما أبعد تصوراً كهذا عن طبيعة الصراعات الدولية وواقعها!